Al Jazirah NewsPaper Friday  14/11/2008 G Issue 13196
الجمعة 16 ذو القعدة 1429   العدد  13196

نوازع
أحمد بن شهيد
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

استهوتني قصة جميلة من نسج خيال أبي عامر بن شهيد الأندلسي، فقد عاش في صباه عيشة مترفة في عهد الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر، حيث كان والده من أقرب الناس إليه وأصدقهم وداً، وولاه بعض نواحي الأندلس، غير أن ابن شهيد الأب زهد في الدنيا وعاد إلى قرطبة وعرض على الحاجب المنصور جميع ما لديه من مال، وطلب منه أخذ جميع ما يملك، فرفضها الحاجب المنصور، وزاده على ما بيده، فعاش الابن، أبي عامر أحمد بن شهيد في قرطبة كأحد أبناء الطبقة الأرستقراطية التي عاشت عيشة غنية مترفة متمتعة بمباهج الحياة، رغم أن الحاجب المنصور شغوف بالجهاد ومنازلة العدو، لا يرده عن منازلته لذة عيش أو ترف حياة، ولقد ساق الحاجب المنصور إلى قرطبة من السبايا ما جعل الناس ينادون على بناتهم للزواج فلا يجدون لهن بعلاً لكثرة الجواري الحسان، ورخص ثمنهن، وطيب معشرهن.

وعاش أبي عامر أحمد بن شهيد بداية شبابه في هذا العصر الزاهي، فأسرف في الترف والمجون ربما لجبله فيه وظروف بيئته مناسبة مع والد شديد الزهد متناقض مع ماضيه وحاضر مجتمعه، هذا الخليط العجيب من الجبلة الذاتية والبيئة الاجتماعية، أظهرت لنا رجلاً فذاً مبدعاً في الأدب وفنونه، لاسيما بعد أن دارت الأيام وتحولت الأحوال وأخذت الأمور في الانحسار وكأنها تذكرنا بقول أحد شعراء الأندلس فيما بعد:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

ولعل الأزمة الاقتصادية الحالية تكون أرأف حالاً بالعالم أجمع حتى لا ينطبق على عالمنا الحالي ما انطبق على الأندلس فيما مضى لنبحث عن شاعر يقول فينا شعراً كما قال فيمن سبقنا من الأندلسيين.

فأزمة الحاضر الاقتصادية غطت بأجنحتها العديدة جميع دول العالم سوى تلك التي كانت بعيدة عن دهاليز التنمية وسلسلتها العجيبة، فبقيت كما كانت في مستوى ثابت من محدودية الدخل، فلم تعر تلك الأزمة بالاً، ولم تفسد لها حالاً.

ودعونا نتحدث عن ابن شهيد في غمزه ولمزه في قصة خيالية ظريفة، فقد ذكر أنه ذهب مع رجل من الجن يقال له زهير بن تمير ودخلا عالم الجن وركبا مهراً أدهما، وقابلا الكثير من الأموات مثل امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وأبي نواس وغيرهم، وكان الحديث معهم طويلاً، ويدخل أحمد بن شهيد مع الجني زهير بن نمير إلى مكان من عالم الجن ليجد حماراً من حميرهم مع بغل من بغالهم رأيا أحمد بن شهيد فحكماه في شعرهما أيهما أشعر، كما يدعي فقال في رسالته:

(ومشيت يوماً وزهير بأرض الجن نتقرى الفوائد ونعتمد أندية أهل الآداب منهم، إذ أشرفنا على قرارةٍ غناء، تفنر عن بركة ماء، وفيها عانة من حمر الجن وبغالهم، قد أصابها أولق فهي تصطك بالحوافر، وتنفخ من المناخر، وقد اشتد ضراطها، وعلا شحيجها ونهيقها فلما بصرت بنا أجفلت إلينا وهي تقول: جاءكم على رجليه! فارتعت لذلك، فتبسم زهير وقد عرف القصد، وقال لي:

تهيأ للحكم فلما لحقت بنا بدأتني بالتفدية، وحيتني بالتكنية فقلت: ما الخطب، حمى حماك أيتها العانة، وأخصب مرعاك؟ قالت: شعران لحمار وبغل من عشاقنا اختلفنا فيها، وقد رضيناك حكماً قلت: حتى أسمع فقدمت إلى بغلة شهباء، عليها بغلة جلها وبرفعها، لم تدخل فيما دخلت فيه العانة من سوء العجلة وسخف الحركة، فقالت: أحد الشعرين لبغلٍ من بغالنا وهو:

على كل صب من هواه دليل

سقام على حر الجوى، ونحول

ومازال هذا الحب داءً مبرحاً

إذا ما اعترى بغلاً فليس يزول

بنفسي التي أما ملاحظ طرفها

فسحر، وأما خدها فأسيل

تعبت بما حملت من ثقل حبها،

وإني لبغل للثقال حمول

وما نلت منها نائلاً غير أنني

إذا هي بالت بلت حيث تبول

والشعر الآخر لدُكين الحمار:

دهيت بهذا الحب منذ هويت،

وراثت إراداتي فلست أريث

كلفت بإلفي منذ عشرين حجة،

يجول هواها في الحشا ويعيث

ومالي في برح الصبابة مخلص،

ولا لي من فيض السقام مغيث

وغيّر منها قلبها لي نميمة،

نماها أحم الخصيتين خبيث

وما نلت منها نائلا، غير أنني

إذا هي راثت رثت حيث تروث

فضحك زهير، وتماسكتُ، وقلت للمنشدة: ما هويت؟ قالت: هو هويتِ بلغة الحمير فقلت: والله، إن للروث رائحة كريهة، وقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعر! فقالت: فهمت عنك وأشارت إلى العانة أن دُكيناً مغلوباً، ثم انصرفت قانعة راضية.

وقالت لي البغلة: أما تعرفني أبا عامر؟ قلت: لو كانت ثم علامة! فأماطت لثامها، فإذا هي بلغة أبي عيسى، والخال على خدها، فتباكينا طويلاً، وأخذنا في ذكر أيامنا، فقالت: ما أبقيت منك؟ قلت: ما ترين قالت: شب عمرو عن الطوق! فما فعل الأحبة بعدي، أهم على العهد؟ قلت: شب الغلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرت الخلان، ومن إخوانك من بلغ الإمارة، وانتهى إلى الوزارة فتنفست الصعداء، وقالت: سقاهم الله سبل العهد، وإن حالوا عن العهد، ونسوا أيام الود بحرمة الأدب، إلا ما أقرأتهم مني السلام، قلت: كما تأمرين وأكثر. ياله من تصريف بل تصريح ببعض أنداده وحساده عرض بهم واستهزأ في صيغة تحكيم بين بغل تعشق بغلة وحمار هام بحمارة، فجاء ضرب اللسان آلم من وخز السنان.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد