استخلف الله الإنسان في الأرض ليعمرها، وهو يعلم أنه قد يدَمِّرها، ولذلك فقد تساءل الملائكة الكرام عندما أخبرهم ربهم عز وجل أنه جاعل في الأرض خليفة، قائلين: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون.
وأخبر سبحانه وتعالى - ولا مبدل لحكمه - أن حياة الإنسان على الأرض تستلزم وجود نظام رباني متكامل، وتقوم على عبادة الله وحده؛ وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، حتى تتحقق عمارة الأرض والكون على الوجه المطلوب، وليسعد الإنسان في حياته ويفوز بالخلود بعد مماته.. فكانت الطاعة وامتثال مراد الخالق مقياساً للتعمير والتدمير، وعليها يتوقف إدراك السعادة والشقاء، وفيها أسباب البقاء والفناء.
ولم يترك الله سبحانه وتعالى للإنسان من حجة، فبعث رسله مبشرين ومنذرين وأنزل كتبه هدى للمتقين، وإنذاراً للكافرين. ولهذا فما من إنسان سَوِي إلاّ ويعرف مصير الأمم السابقة، ويعرف أن بأس الله لا يرد عن القوم الكافرين. ويعرف أيضاً أن التمادي في البعد عن الله، والإيغال في الظلم والعدوان وسوء الأخلاق سبب للهلاك والدمار، واستبدال الأمة المسرفة المنحرفة عن الطريق القويم بأمة جديدة، وهكذا تسير الحياة على هذه الأرض، وتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولا تحويلاً..
وسأقف هنا عند موضوع سوء الأخلاق؛ لنعرف أين نحن؟ وأين كنا؟، وهل نحن سائرون بالاتجاه الصحيح، أم بالاتجاه المحذور؟.
الواقع أننا إذا نظرنا إلى حالنا في هذه الأيام مقارنة مع حالنا قبل عقدين أو ثلاثة، لوجدنا أن حالنا في كثير من جوانبها لا تسر الناظرين، ولا يطمئن لها الذين يخافون من عواقب الأمور!! لقد ظهر في السنوات الأخيرة سلوكيات لم تكن معروفة في أسلافنا.. فلم نكن نسمع في السابق أن العقوق في الوالدين قد يصل إلى ضربهما، ولم يتصور أحد أن يصل ذلك إلى حد أن يقتل الأبناءُ آباءهم أو أمهاتهم.. ولم نسمع في سلوكيات آبائنا وأجدادنا أن يتحرش الإخوان بإخوانهم وأخواتهم، أو الآباء بأبنائهم وبناتهم.. ولم نسمع في الأجيال الماضية أن يتاجر الإنسان بأعضاء إنسان آخر، مستغلاً حاجته وفقره وضعفه ليساومه على كليته أو عينه أو قلبه أو غير ذلك دون شفقة أو رحمة!! لم يعرف آباؤنا أن يخاف المعلم من تلميذه، ولم يتصوروا أن يمارس الشاب ضربَ معلمه بلا حياء ولا رادع.. ولم نعرف أن طلبة المدارس يحملون في حقائبهم السكاكين والمطاوي، ويمارسون الطعن في مضاربات عبثية تؤججها العصبية القبلية أو التحيزات الإقليمية، وكأنهم على موارد المياه في قلب الصحراء، لا على مقاعد الدراسة في قلب المدن العصرية!
لم يعرف أجدادنا عصر العولمة الذي أصبح فيه الكذب على المستهلك حلالاً، وبخس الموازين شطارة، والتلاعب بحجم العبوة أو شكلها على حساب المضمون فناً من فنون البيع والتجارة، يتباهى به البائع ويسكت عنه المستهلك!
أما أخلاقيات العفة عن المحارم وغض البصر عن نساء المسلمين، في عصر الفضائيات والجوالات والفيديو كليب، فهي أخلاق لا تسر ولا تبهج..
لن نتحدث عن أسباب هذا الانحدار الأخلاقي، ولن نتطرق إلى العوامل والمؤثرات التي أفسدت العقل العربي، وقضت على روح الفضيلة التي كانت الحصن الحصين لحماية الإنسان والمجتمع من سلوكيات الفوضى الأخلاقية التي تؤدي إلى نقض البناء الاجتماعي السليم حجراً حجراً. وإذا تهاوى بناء المجتمع تهاوت حصون الحياة الكريمة، وفقد الإنسان إنسانيته.. وليس بعد فقد الإنسانية إلاّ حياة بهيمية لا يأمن الكريم فيها على كرامته، ولا يطمئن فيها الشريف على شرفه، لأن حياة الفوضى لا يقام فيها عدل، ولا يؤخذ فيها حق، وإذا وصلت الأمة إلى هذا الحد - والعياذ بالله - أذن الله بعذابها، وأذاقها لباس الجوع والخوف، ومستها الضراء، فإن لم تعتبر وترجع إلى الحق، أذن بزوالها واستبدالها بقوم آخرين، وما بكت على أهلها السماء والأرض، وما كانوا منظرين.