من رسائل القراء التي تصل إليَّ ما يدلُّ على مشكلاتٍ نفسية واجتماعية خطيرة توحي بما لإيقاع الحياة المعاصر القاسي من ضغط على نفوس بعض الناس وقلوبهم، وتشعرنا بأهمية بذل الجهود للإصلاح والتوجيه، وإنقاذ الناس من أنفاق القلق، والبغضاء، والحقد. |
النَّفس الأمَّارة بالسوء لا تأمر صاحبها بخير، ولا تسوقه إلى خير؛ ولهذا كان لزاماً علينا أن نستعيذ بالله من شرها ووسوستها، وسوء ما تنطوي عليه. |
ولا بأس أن نقرأ معاً إحدى تلك الرسائل حتى نطِّلع على أصل هذه المشكلة: |
يقول صاحب الرسالة: (يا شيخ آسف على إزعاجك؛ فأنا لا أنام إلا غفوات منذ أسبوع وقد فتَّت الغَمُّ كبدي، وأقضَّ مضجعي، والسبب أنني بدأت أتفاعل مع الماضي وأفكر في (الانتقام) من أناسٍ أهانوني وظلموني بشهادة كلِّ مَنْ حولنا - دون أدنى اعتذارٍ أسمعه من أحدهم - ولا سبيل لأخذ حقي شرعاً. ومما زادني كمداً أنهم ترقوا في مناصب الدنيا، وركب الحياة، فما توجيهك لي؟). |
وقد رددت عليه برسالة مباشرة تشبه رسائل الإنقاذ السريع قلت فيها: (توجيهي أن تخرج من هذا النفق سريعاً إلى غير رجعة؛ فإنه - يا أخي - نفق قاتل، ولا يضيع عند الله شيء؛ ففيه سبحانه عوض من كل فائت، وقدوتك وقدوتنا في هذا الذي قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء - عليه الصلاة والسلام -. |
أرأيتم - أيها الأحبة - كيف نظر صاحب الرسالة إلى أولئك الذين أساءوا إليه، وأهانوه وظلموه، فلم يجد من ينصفه، وليس لديه - كما يبدو - من الأدلَّة ما يمكن أن يكسب به القضية لو تقدَّم إلى القضاء، ولهذا وسوس إليه الشيطان، ودعته النفس الأمَّارة بالسوء إلى الانتقام وقد تضخَّم الأمر في نفسه حتى أصبح عاجزاً عن الرَّاحة والهدوء والنوم. |
وفي هذه الرسالة إشارات يحسن بنا أن نقف عندها، أولاها: خطورة الظلم والإهانة والإساءة إلى الآخرين؛ فإنها مدعاة لإثارة الضغائن والأحقاد في النفوس؛ مما قد يدفع بالإنسان المظلوم إلى أقصى أساليب الانتقام حينما تتحكم فيه نفسه الأمَّارة بالسوء، وثاني تلك الإشارات: سلبية الناس في مثل هذه المواقف، وعدم سعيهم للإصلاح ونصر المظلوم وردع الظالم؛ فصاحب الرسالة يقول: (وظلموني بشهادة كل من حولنا)، والسؤال هنا: أين دور هؤلاء الذين يشاهدون ما جرى عليه من الإهانة والظلم في الإصلاح وإزالة الشحناء؟ |
أما الإشارة الثالثة فهي تتعلق بعظمة التسامح، وأهمية الصبر على الأذى في استقرار الإنسان نفسياً وذهنياً، وفي إصلاح المجتمع، فلو أن صاحب الرسالة - هداه الله إلى الخير - تناسى الإساءة، ورمى بها وراء ظهره وانطلق في مناكب الحياة طالباً فضل ربِّه، لما أصابه هذا الأرق والقلق الذي حال بينه وبين النوم، وأتاح مجالاً للشيطان أن يحرِّك كوامن الحقد والبغضاء في نفسه إلى درجةٍ جعلته يفكر في الانتقام. |
إنه نفق الحقد القاتل الذي يجدر بنا ألا نتورط فيه؛ فهو من أشد عوامل قتل همة الإنسان وتعطيل مسيرته الناجحة في الحياة، وقد ذكرت في رسالتي إلى الرجل تلك الجملة المضيئة التي تتناقلها أفواه القيم والأمجاد رمزاً للتسامح والعفو، إنها الجملة التي أطلقها الحبيب محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - على مسامع أعدائه الألدَّاء من كفَّار قريش في فتح مكة قائلاً: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). |
ولو انتقم منهم - عليه الصلاة والسلام - لعطَّل مسيرة الخير والحق التي بعثه الله بها. |
|
إلهي ما سألت سواك عوناً |
فحسبي العون من ربٍّ قدير |
|