جملة فعلية مختصرة لم يكن صاحب الشأن فيها مذكوراً أمام المتلقين كما يقرّر قائلها ويُفهم من مضمونها، بخلاف بعض الجمل التي يظهر فيها المخاطب ويشغل حيزاً من المساحة التي تكتب فيها الجملة، وإذا كان لكل كلمة دلالتان: لفظية وأخرى معنوية فإن لهذه الجملة مثل ما للكلمة.
وإذا كان صاحب الشأن في الدلالة الأولى مستتراً فإنه في الثانية يحاول الظهور ويرفع لواء الشهرة عالياً ليراه الناس ولو دفع في سبيل تحقيقه ومكانته المزيفة أغلى الأثمان، فهو يبحث دائماً عن السلم الذي يصعد عليه ليراه الآخرون ويرفعوا إليه أنظارهم، وعن الطريق الذي يؤدي به إلى المكانة الاجتماعية المرموقة التي يحلم بها ولو كان هذا الطريق شائكاً ضيقاً متعرجاً مليئاً بالحفر والمستنقعات، وما عرف هذا المسكين أو بعبارة أدق قاصر النظر أنه بِقَدر ما يرى الناس من فوق القمة الوهمية التي يحلم بها يروه من أسفلها، فلو كان هذا الشخص على سبيل المثال في أعلى دور من بُرجي الفيصلية أو المملكة في الرياض فإنه يرى الناس تحته في الشوارع صغاراً وأقزاماً، والمعادلة المادية تقضي أنهم إذا رفعوا أنظارهم إليه رأوه كما يراهم، هذه حقيقة مسلمة مادياً ومعنوياً لا تقبل جدلاً ولا مراء، ولكن النفوس التي تشعر بالغربة في مجتمعاتها التي تعيش فيها، أو تهمشها تلك المجتمعات لأسباب هي في الغالب جوهرية ومنطقية، كأن تخرج عن الخط المستقيم الذي اختارته تلك المجتمعات لمسيرتها، أو تخرج على ثوابتها أو تنشر الأفكار السيئة بين أفرادها أو تنهج نهجاً يشكك في إخلاصها أو غير ذلك من دواعي هذا التصرف، هذه النفوس تبحث عن سلوك يردّ لها اعتبارها ويثبت وجودها في مجتمعها ويحقق لها الشهرة التي تلهث وراء سرابها، ومن أبسط هذا السلوك وأسهله مفهوم هذه المقولة (خالف تذكر) وهو في الواقع سلوك العاجزين الذين دبّ اليأس في نفوسهم قبل أن يصلوا إلى المكان الشريف والهدف السامي النبيل الذي يرفع شأنهم ويُعلي ذكرهم على ألسنة الآخرين في مجتمعاتهم ونواديهم ووسائل إعلامهم، ونتيجة لذلك فإنهم يسلكون في هذه المخالفة مسالك شتّى ومناهج متعددة ومتغايرة ويطرقون باب الحيل والطرق الملتوية، ومن أسوئها وأخطرها مخالفة المجتمع في ثوابته ومعتقداته الراسخة في عقول أفراده رسوخ الجبال الشامخة الطويلة، أو التقوّل على رموزه في تلك المعتقدات من العلماء والدعاة وتحريف أقوالهم وتصيّد زلاتهم وتضخيمها وتقديمها في وسائل الإعلام في صورة مشوّهة بعيدة عن الواقع ومحاسبتهم عليها في هذه الصورة.
إن هؤلاء وأمثالهم لا يتصيّدون الأخطاء الطبية التي قد تصل إلى شلل الضحية أو موته، ولا يتصيّدون الأخطاء التربوية التي قد تقضي على مستقبل الطالب أو الطالبة، ولا الاقتصادية التي قد تعصف بمدخرات المواطن وآماله، لأن هذا المنهج لن يبني لهم أهراماً يصعدون على قممها ويحاولون لفت أنظار الناس إليهم ليقولوا لهم: ها نحن على القمة، ولن يذكروا على ألسنة المختصين في هذه المجالات وإن خالفوهم وانتقدوهم، بخلاف نقد الثوابت والمعتقدات، أو نقد العلماء والدعاة والمصلحين من رجال المجتمع الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وغيرهم ممن يتواصل الناس معهم ويحترمونهم ويطيعون أولياء الأمر منهم ويتعاونون معهم ويدعون لهم بالتوفيق والسداد.
إن الباحث في واقع كثير من البلدان القريبة منا والبعيدة والمقلِّب صفحات التاريخ يرى أن المملكة العربية السعودية ولله الحمد نموذج حي صادق متميّز في علاقة مواطنيه مع حكومتهم - وفّقها الله - ومع علمائهم وذوي الشأن والإصلاح منهم، بل مع جميع أطيافهم ومستوياتهم، علاقة متبادلة يسودها الودّ والتآزر وإسداء النصيحة والسمح والطاعة والإخلاص والترابط الوثيق الذي لم يدع فرجة يدخل منها العدو الذي يلبس أحياناً ثوب الصداقة أو المواطنة ويرتدي أحياناً جلباب النقد الهادف المتجرد من عواطف الناقد ومعتقداته، كما أن علماءها لم يتفرّقوا على المذاهب المختلفة والمعتقدات المتباينة في جمعيات تلبس رداء الدين وتتسابق فيما بينها على حطام الدنيا من المال أو الجاه أو المراكز الاجتماعية كما نرى عند غيرهم، وقد بذلوا أوقاتهم وقدراتهم للفتوى والنصح والدعوة في جميع وسائل الإعلام وفي المساجد وحلقات الذكر، بل في مجالسهم الخاصة، وقاموا وما زالوا يقومون متعاونين مع الدولة - حفظها الله - بمسؤوليات جسام ويقفون على ثغور متعددة ومختلفة من ثغور الإسلام والأمن في البلاد، وغير ذلك مما يوجب علينا احترامهم والاعتراف بفضلهم والدعاء لهم، ولهذه المكانة المرموقة التي يتميّزون بها، ولهذا الاحترام الذي يستحقونه من خاصة الناس وعامتهم خالفهم - ولو في الفروع والجزئيات - بعض من يستميتون في سبيل الشهرة، لا ليصلوا معهم إلى حقائق علمية ونتائج مفيدة فهم يعرفون أنهم دون مستوياتهم في العلوم الشرعية والتجارب العملية، ولكن طمعاً في استغلال هذه المكانة واختراقاً لهذا الاحترام ومخالفة لهم وللرأي العام ليذكروا وتتصدر أسماؤهم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ولكي يصلوا إلى ساحات الشهرة وميادين الإطراء.
وقد استطاعوا تحقيق شيء من تلك الشهرة لأن بعض العلماء اجتهاداً منهم وتبرئة لذممهم وحسن ظن بهؤلاء قد عبَّدوا لهم طرق هذه الساحات وفتحوا لهم أبواب تلك الميادين حينما دخلوا معهم في مناقشات وردود عبر وسائل الإعلام المنتشرة بين الناس اتضح أنها غير مجدية وعلى غير ما توقع العلماء الذين يحسنون الظن بإخوانهم، فقد وظّفها هؤلاء المخالفون في مدّ مساحة وجودهم وتوسيع دائرة سمعتهم على المنهج الذي اختاروه لأنفسهم (خالف تذكر)، ولعل أكثر القراء قد عاش تجارب لآخرين سبقوا هؤلاء نُقشت أسماؤهم ورسمت صورهم على جدران الشهرة ولوحات الإطراء في وسائل الإعلام وفي غيرها، ولكن سرعان ما أزالتها الحقائق العلمية وحلّ محلها واقع المستوى العلمي الذي وصلوا إليه والمكانة الاجتماعية التي لم تشبع رغباتهم وطموحاتهم، وإن ندر منهم من تقدّم بخطوات ثابتة على أرض صلبة وصل بها إلى مراده وحقق أكثر طموحاته، ويمكن أن نمثّل للحالتين بالدكتور طه حسين، فقد خالف علماء الأزهر وشك في بعض الثوابت الواضحة الجلية حينما كان طالباً أزهرياً كفيفاً فقيراً - وهذا لا يغض من قدره - فهي إرادة الله وفيها الحكمة ولا شك، وكان نكرة بين طلاب الأزهر وأساتذته، ومن منطلق هؤلاء بدأ يعارض أساتذته في قاعة المحاضرات فانقسم طلاب القاعة بين مؤيّد له ومعارض وهؤلاء جميعاً حملوا سمعته على أكتافهم إلى الجامعات والمعاهد والمكتبات العامة ومراكز البحوث والصحف ودور النشر وغيرها، ثم أعلن تمرده على أنظمة الأزهر ومناهجه، ثم وسع دائرة الخلاف ليكثر مؤيّدوه ومخالفوه ويحملوا سمعته بعواطف صادقة جياشة إلى الأماكن التي لم يصلها طلاب قاعة المحاضرات، وطارت سمعته في الآفاق حينما كتب بعض المقالات التي هاجم فيها بعض العلماء والمناهج والأنظمة الإدارية، وكذلك حينما ألّف كتابه المشهور (في الشعر الجاهلي) أو (في الأدب الجاهلي) متتبعاً خطوات (ديكارت) في الشك طريق اليقين، ومرجليوث وغيرهما من المستشرقين، وكذلك حينما انبرى له علماء الأزهر وغيرهم بالردود في مقالات تُفنّد أخطاءه وتدفع حججه وأفكاره نشرت في الصحف والمجلات المهمة، وفي مؤلفات كثيرة وكبيرة في حجمها ومضمونها كتبها فطاحلة العلماء والأدباء فاتسعت دائرة ذكره في الأوساط العلمية والثقافية.
ولكن مع هذه كله فإن طه حسين بعد أن اجتاز المراحل الأولى في حياته الدراسية لم يصل إلى ما وصل إليه من المكانة العلمية المرموقة وعمادة الأدب العربي فيما بعد وتولي المناصب العلمية والإدارية ورئاسة اللجان العلمية وغيرها بهذا المنهج الذي اختاره هؤلاء لأنفسهم، بل بغزارة علمه وجده ومثابرته.
ومع هذا ومع ما خلّف من بعض الأفكار الخاطئة فإنه لا يصلح أنموذجاً يحتذيه هؤلاء الذين يخالفون ليذكروا ويستغلون سماحة العلماء وحلمهم ليوجهوا إليهم سهام نقدهم.
وهذا الخطأ الذي ارتكبه علماء الأزهر في الخطوات الأولى من حياة الطالب الأزهري المغمور طه حسين بحسن نية وسلامة قصد يتكرر اليوم من بعض علمائنا الأفاضل بسلبياته التي تطغى على إيجابياته، ولو قبلناه مع أفكار طه حسين التي انتشرت بين الناس في مؤلفات لها مكانتها بين المثقفين فلن نقبله مع من هم دونه في العلم والأدب والمكانة الاجتماعية.
وعلى أية حال فإن الحكمة والعقل والمنطق السليم والنصيحة الصادقة وحتى المصالح المشتركة لهذا الوطن الغالي كلها وغيرها من القيم السامية توجب علينا أن نأخذ بأيدي هؤلاء الإخوة إلى الصواب فهم أبناء هؤلاء العلماء وتلاميذهم، وهم يركبون معنا في السفينة التي تواجه اليوم أمواجاً عاتية تهب عليها الرياح من جميع الجهات، وعلينا نحن وإياهم أن نتعاون ونتفاهم لتصل السفينة إلى مرفأ الأمان وذلك عبر منهج سليم وحوار هادئ بعيد عن الأنظار ووسائل الإعلام، حوار علمي إيجابي يكشف لهم أخطاءهم ويحاول إقناعهم بالحكمة والموعظة الحسنة والنصيحة الصادرة من القلب إلى القلب، فإن لم يستجب بعضهم لذلك وأصر على ما هو عليه فعلى العلماء والمثقفين أن يتجاهلوه ولا يردوا عليه بردود ومناقشات عقيمة، وأن يطووا أفكاره في بساط النسيان البعيد عن الأنظار ووسائل الإعلام وينسوه أو يتناسوه وحينئذ سيضيع صوته في وادٍ عميق سحيق تجرفه سيول الحقيقة والعلم الراسخ والثوابت المتمكّنة في قلوب أفراد المجتمع الذي يعيش فيه، وسيخلفوا ظنه حينما أراد أن يستفزهم ليملأوا صفحات الجرائد باسمه وصورته والردود عليه، والزمن جدير بأن يغربل آراءه وسلوكياته {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.
وفَّق الله حكومتنا وعلماءنا وكتّابنا وجميع أفراد مجتمعنا، ورد المخطئ منّا إلى صوابه، وألّف بين قلوب الجميع وجمع كلمتهم على التقوى والتعاون بينهم ليحافظوا جميعاً على ما ينعمون به في هذا الوطن الغالي، وليؤدوا الأمانة العظيمة الملقاة على عواتقهم ويقفوا صفاً واحداً لا يجد العدو فيه منفذاً يتسلّل منه ليسرق شيئاً من مجوهراتهم ومقتنياتهم الثمينة التي يغبطهم العالم عليها وربما حسدهم وتمنى زوالها منهم... والله الموفّق.