كانت أول مرة أسمع فيها كلمة الشرط الجزائي وأسمع الإحالة إلى كتب الدكتور عبدالرزاق السنهوري والشيخ مصطفى الزرقاء والاستشهاد بفقهاء العصر كالشيخ عبدالرحمن تاج والشيخ أبوزهرة وغيرهم، وكان ذلك عندما دخل علينا ونحن طلبة في السنة الثالثة من كلية الشريعة شيخ منور البصيرة كفيف البصر، جاه ووقور ولكن بحيوية وعفوية، وكان يسيطر على القاعة من غير أن يسمعنا تهديداً أو وعيداً ولكن بما يشغلنا به من علم أو يشوقنا به من طرائف وملح، ولم يكن ذلك هو جانب الإبهار الوحيد فيه، فقد كان ثمة جوانب أخرى منها إحاطته بالواقع الاجتماعي التي كانت تتساوق مع الإحاطة العلمية، فكان الشيخ يحدثنا عن الواقع الاجتماعي بإحاطة الخبير المتابع لأجد المستجدات ثم يحسن ربطها كأمثلة تطبيقية بمادته العلمية وبذا تحول الفقه عندنا إلى مادة للحياة وليس إرثاً للأموات، كما كان من جوانب الإبهار قوة العلاقة التي بناها مع الطلبة فما إن عبر الأسبوع الأول حتى كانت أسماء الطلبة تتقافز من بين شفتيه ينادي هذا ويحيل إلى ذاك ثم ازداد العجب عندما علمنا أنه درس فصولاً يزيد عددها على 240 طالباً فكان يحفظ أسماءهم وأرقام جلوسهم، وهي ميزة لم أستتم العجب منها إلا بعد أن أصبحت مدرساً في الجامعة فإذا السنة الدراسية تنتهي وأنا لا أحفظ من أسماء الطلبة إلا القليل فعلمت كم كانت هذه الميزة عظيمة في الشيخ، بل عجبت عندما علمت أن الشيخ يسمع لطلابه في المعهد واجب الحفظ فلا يستطيع أحد منهم أن يسارق النظر إلى كتابه حين تسميع الحفظ، ثم عجبت من قدرته الفائقة على معرفة أوصاف الشخص من خلال صوته حتى إنه عرف من صوت الإمام أنه كفيف البصر، وكان ذلك في مسجد كثيف الزحام فخالف الشيخ مرافقيه وهم مبصرون فلما تفرق الناس رأوا إمامهم إذا هو كما أخبر شيخهم.
وكان من جوانب الإبهار الأخرى لدى الشيخ جرجرة الطلبة الذين تعودوا على الاسترخاء مع كتاب مقرر ومذكرة مصاحبة إلى بطون الكتب ينتقشون منها فرقا بين صورتين أو جامعاً بين مسألتين ولا أزال أتذكر بعض الجدل الذي كان يدور في القاعة ونحن نقلب كشاف القناع ونتساءل أي هذين السطرين يوجد فيه جواب السؤال الذي أحالنا عليه الشيخ، وعرفنا بعد أن هذه الحيرة كانت إحدى مطالب الشيخ وأهدافه في صنع القدرة العلمية لدى الطلاب، ومضت سنوات تخرج فيها الطلبة من الجامعة وتفرقت بهم شعب الحياة، ولقد كان عقوق الطلبة وتقصيرهم مع أشياخهم مما عاق عن استمرار التواصل مع كثير من الأشياخ إلا أن شيئاً كان يجذبنا إلى هذا الشيخ أبقى حبال التواصل ممتدة لنحو من ثلاثين سنة كان من أهم هذه الأسباب أن الشيخ حطم وبقوة الطريقة التي كانت تبنى عليها العلاقة بين الأساتذة والطلاب وبنى بدلاً منها جسراً وثيقاً يقوم على الاحترام المتبادل والتقدير الذي يصل إلى حد المبالغة من الشيخ لطلابه بحيث أشعرهم أنهم جميعاً أصدقاء وزملاء، وإن كانوا لم يتخلوا عن شعورهم بأنهم طلبة وتلاميذ له، وكان التواصل مع الشيخ ينقل إلى آفاق أوسع فقد استمرت صلتي بالشيخ فأفدت منها مع علمه مساحة واسعة من العلاقات التي كان الشيخ يرعاها بنبل ووفاء، وكشف لي مشوار العلاقة مع الشيخ رعاية الصلات العلمية والاجتماعية بشكل لم أشهد لها مثيلاً مع غيره، فقلما تعرف بأحد إلا تعرف بأسرته وقرابته وعرف أسماء أبنائه ووالديه وزوجته أحياناً، وقلما أتيته إلا وجدته راجعاً من عيادة مريض أو ذاهباً لحضور حفل زفاف أو عزاء أو زيارة ودية، وليس الذي يعجبك هو سعة هذه العلاقات التي تدل على حسن الخلق، ولكن يعجبك أكثر هذا الوفاء لهذه العلاقة فالأصدقاء، والمعارف ليسوا أرقاماً في مفكرة الهاتف ولكن ترعاهم علاقة كريمة لها تبعتها من الوفاء والبر وحسن العهد، ثم تكشف لي بهذه الصحبة سر النبوغ العلمي لدى الشيخ فلقد اتضح لي أن هذا الرسوخ العلمي مؤسس على بكور في الطلب، وتوثب عازم بين مراحل التعليم، ولقي للأكابر ذوي الرسوخ العلمي والتميز في العطاء، فعلمت أنه طلب العلم في سن الصبا المبكر، واختصر الدراسة الابتدائية والدراسة في المعهد العلمي أربع سنوات في كل منهما، وأن سنده في العلم يبدأ بفقيه الديار النجدية الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري حيث أخذ عنه مبادئ العلوم في بلدة المجمعة ثم تلقى في كلية الشريعة عن الأكابر الكبار من أمثال الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ الأمين الشنقيطي والشيخ عبدالعزيز الرشيد ومن علماء مصر فضيلة الشيخ عبدالرزاق عفيفي والأستاذ الدكتور علي عبدالواحد وافي والأستاذ الدكتور عبداللطيف سرحان والأستاذ الدكتور محمد خليل هراس وغيرهم من قمم ذلك الوقت رحمهم الله رحمة واسعة.
ثم كانت رحلته إلى مصر ليدرك هناك بقايا العظماء من شيوخ الأزهر الذين طلبوا العلم على السنن الأول يوم كان العلم يدرس على النهج العتيق في أروقة الأزهر، فأخذ عن أكابر الكبار في ذلك الوقت أمثال: الأستاذ الدكتور عبدالعال عطوة، والأستاذ الدكتور مصطفى عبدالخالق، والأستاذ الدكتور عبدالغني عبدالخالق، والأستاذ الدكتور أبو النور زهير وغيرهم من هذه الطبقة المباركة، كما كان على تواصل علمي مع الشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالعزيز بن صالح وغيرهم من علماء العصر كل ذلك كون لدى الشيخ خارطة علمية واسعة أحسن التفاعل معها والإفادة بعد منها، ولذا نال درجة الدكتوراة في الفقه المقارن بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى وأوصت لجنة المناقشة بطبع الرسالة على حساب جامعة الأزهر وتبادلها مع الجامعات.
ثم استمر الشيخ في متابعة ما يجد ويستجد واستمر عطاؤه في مسارات متوازية منها التأليف حيث بلغت مؤلفاته أربعة وثلاثين كتاباً، منها فقه الأسرة عند ابن تيمية، وحقوق الطفل في الإسلام، وأمة في رجل وغيرها كثير.
وثمة مجال آخر وهو المشاركة في المؤتمرات والدورات العلمية داخل المملكة وخارجها ليرسم خارطة علمية تبدأ من المملكة وتمتد إلى أوروبا مروراً بالكويت والإمارات والبحرين وقطر والاردن ومصر والمغرب وبريطانيا وبلجيكا.
وثمة مسار آخر وهو الدعوة في المملكة المتحدة فما إن تنتهي السنة الدراسية حتى تبدأ رحلة الصيف إلى بريطانيا التي هي مشوار آخر مع الدعوة والتعليم ابتدأ منذ أكثر من ثلاثين سنة والشيخ يرعى غراسه هناك، وله الذكرى الحسنة في نفوس الطلبة المبتعثين حيث يتنقل بين مدنهم من شمال بريطانيا إلى جنوبها زائراً ومحاضراً ومربياً ومعلماً.
أما مسيرته في التعليم فما ظنك بحصاد ستين سنة قضاها الشيخ تعلماً وتعليماً فقد درس الشيخ في المعهد العلمي ثم في المرحلة الجامعية ثم في الدراسات العليا فعبرت من تحت يده جموع غفيرة من طلبة العلم الذين هم اليوم القضاة وأساتذة الجامعات، وكبار العلماء والدعاة والوزراء.
كما كان عضواً في المجلس العلمي لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في ثلاث دورات من عام 1402هـ وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعضواً مشاركاً في مؤتمرات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة على مدى عشرين عاماً.
ذلكم هو شيخنا الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد الصالح.
واليوم وقد نشر نبأ صدور قرار رئيس مجلس الوزراء في جمهورية مصر العربية بتعيين فضيلة الشيخ في مجمع البحوث الإسلامية في جامع الأزهر الذي يعد أرقى مجمع علمي على مستوى العالم الإسلامي فإن هذا القرار له دلالاته اللافتة:
أولها: أنه يأتي عرفاناً للشيخ بهذه المسيرة العلمية والدعوية الحافلة.
ثانياً: أن الشيخ كان ضمن باقة من الكبار فقد صدر القرار بتعيين أربعة هم فضيلة الشيخ، وفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، وسماحة الشيخ محمد رشيد قباني مفتي الجمهورية اللبنانية، وسماحة الشيخ حمود بن عبدالحميد الهتار مفتي الجمهورية اليمنية.
ثالثاً: أن الشيخ هو الشخصية السعودية الأولى التي تضم إلى مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر.
وإننا إذ نهنئ مجمع البحوث الإسلامية بهذه الإضافة النوعية إلى أعضائه لنهنئ أنفسنا بهذا التعيين الذي هو عرفان بمكانة شيخنا الذي كان من فضل الله عليه أن وفقه وسدده حتى قطع هذا المشوار الطويل من عمره المديد المبارك مثلاً للصدق والإخلاص والتفاني في أداء الواجب والنصح للعلم تعلماً وتعليماً وتأليفاً وكان فضل الله عليه عظيماً.
وبقي لمحبي الشيخ مطلب عنده وهو أن يضيف إلى قائمة مؤلفاته كتاباً يحكي فيه مسيرته العلمية، ويصف فيه حال العلم مع أكابر أهل العلم، فأنا على يقين أن خزانة ذكرياته حفيلة كخزانة علمه.
بارك الله لشيخنا في عمره، ونسأ في أجله وجعل ما أتاه طليعة لخير وافرا متتابعا، ونعمة تامة دائمة، والحمد لله رب العالمين.