يسعد مساؤك بكل خير دكتور محمد.. قرأت لك كثيراً في الجريدة وأعجبني تحليلك للأمور وطريقة تفسيرك للمشكلة مع طرح الحلول، مشكلتي باختصار هي: أنا موظفة ولم يسبق لي الزواج وعمري 43 سنة وعائشة مع أهلي ووضعي ممتاز.. وبما أني أعاني من فراغ عاطفي كبير لا شعورياً وجهته لإخواني الصغار وهم (3).. الأول أمره تيسر وتزوج وخلَّف.. والثانية تخرجت من الجامعة وتشتغل بمدرسة أهلية وأمورها ماشية مع أني أتمنى الأفضل لها.. والمشكلة الأساسية أخي الصغير هذا تعلقت به كثيراً أحسه روحي وعمري ودائماً أقول له أنت أملي اللي ما حققته أبيك تحققه وكان متحمساً لهذا الموضوع دائماً يقول عنده استعداد لكن ما توقعت أني سأعمي عيوني وعيونه بهذا الطلب.. أنا مقتدرة مالياً والوالد موظف عادي واللي معيشنا راتبه التقاعدي وهو كافٍ جداً لنا كأسرة عادية مثل كل الأسر لكن أنا كنت أغطي بعض النواقص الوالد درسه مدرسة أهلية لكن في الثانوي ما أعجبه الوضع وطلب مدرسة أفضل وأغلى لكن الوالد رفض قال مدرسته أو مدرسة حكومية أنا تدخلت ونقلته مدرسة يبيها وكان يطلب مدرسين وأنا أجيب له لأن الوالد ما يقدر يجيب أربعة أو خمسة مدرسين وكل واحد يطلب أربعة أو خمسة آلاف ومو معنا هذا إن عندي بحر من الأموال لكن راتبي جداً ممتاز وما عندي مسئولية فكان كل شي أملكه أسخره لرضاه ورغباته وأنا لي سيطرة على تصرفاته يعني كان يبي سيارة في أولى ثانوي وأقنعته أنه ما يأخذ سيارة إلا بعد الثانوي واقتنع وأبعد الفكرة عنه لكن يوم خلص قاله الوالد بشتريلك لومينا.. أنا ما عندي إلا سبعون ألفاً هو ما تعود على مستوى اللومينا ورفضها وزعل وطبعاً كالعادة تدخلت واشتريت له أودي والوالد انبسط لأن السبعين حطها بجيبه وارتاح من همه وجينا للجامعة وكنت متوقعة نسبة ممتازة يجيبها على هالمدرسين والخسائر والتعب لكن اللي جابها 89 ونصف بس ودخل إدارة أعمال في جامعة الملك سعود ودرس الفصل الأول وقال الدكاترة ما يعطوني على قد مذاكرتي هم ضدي والنتيجة اعتذر وحذف الفصل الدراسي ونام بالبيت والفصل الثاني سجل ودرس لكن بدأ يحن إلى بعثة للخارج مثل بعض زملائه وكالعادة تدخلت مع أني ضد البعثة وطلبت الوالد وسعى في الموضوع ومشى الحال وجاءته بعثة وراح لكندا ودرس لغة ودخل الجامعة ومنذ دخلها وهو مو مبسوط يقول ليتني ما تركت الرياض وما رحت للخارج كلهم نفس الشيء والآن يبي يحذف الفصل ويرجع.. المشكلة أنه يتخبط بمستقبله والمفروض هو يبدأ السنة الثالثة بالجامعة وما زال ما تعدى اللغة الآن إخواني يحملونني مسئولية ضياع مستقبله وتشتت فكره والوالد زعلان وما يكلمني أنا ما قصدت أضيعه بس هي كذا الظروف حكمت أنا حنونة وأحبه وأغدق عليه وأساعده في أشياء كثيرة وأغطي عليه وهو كانت أخلاقه رائعة معي ومع الجميع الحمد لله سلوكه سوي وعاقل ومحترم وما عنده لخبطة الشباب في سنه مع الامكانيات المفتوحة قدامه.. أعترف أني جزء من المشكلة لأني ساعدته يسكن لوحده في شقة مو مع عائلة في كندا وأعطيته مبلغاً كبيراً في البنك يصرف منه عشان ما يحتاج لأحد لكن ما قصدت أنه يروح سياحة ويرجع مضيع مستقبله.. على فكرة أنا تربوية لكن ما عرفت أربي نفسي وأخي الدنيا مقفلة بوجهي وخيبة أمل مغطية روحي والثروة اللي أجمعها وألمها بين يديَّ بدأت تنتثر مني ويضيع مستقبلها وأنا أشوفها أعذرني على الإطالة بس ما عندي أحد أشكو له أو أستشيره.
* الأخت الكريمة لا بد وأنك قد كتبت رسالتك هذه وأنت في أوج الشعور بالأزمة والإحساس المرير بالإحباط من ما حدث، ولذلك فقد طغى على طريقة رؤيتك وتحليلك للأحداث أحد أنماط التفكير التي يُطلق عليها اسم (التفكير الحدي) أو بمعنى أوضح التفكير بطريقة إما أبيض أو أسود، إما الكل أو لا شيء.. وهذا النمط من التفكير تحديداً نمارسه نحن البشر جميعاً من وقت لآخر خصوصاً عندما نكون وسط أزمة معينة ونحاول قراءة نتائجها ونحن منفعلون ومتأزمون عاطفياً.. أعلم أنك كنت تتوقعين كما يتوقع أهلك أيضاً أنه بعد كل الدعم الذي قدمتموه لهذا الأخ الأصغر فإنه سيعود وهو يحمل الشهادة المنتظرة ولكن الواقع أن الأمور لا تسير دائماً كما هو متوقع أو منتظر لها خصوصاً مع وجود عوامل كثيرة مؤثرة في هذا الأمر منها الإمكانيات الشخصية لأخيك وحماسه ورغبته في التخصص وكذلك قدرته على التأقلم في بيئة مختلفة تماماً واستعداده لتعلُّم لغة مختلفة والتواصل مع أشخاص ينتمون لثقافة مختلفة، لا شك أن كل هذه العوامل لعبت دوراً مهما في ما حدث لأخيك ولذلك فليس من العدل ولا الإنصاف أن تحملي نفسك وحدك تبعات ما حصل وكذلك الأمر بالنسبة لأسرتك.. أما توقع سيناريو مختلف في حال أنك لم تتدخلي مطلقاً في مساعدة أخيك على طريقة (لو أني فعلت كذا) أو (لو أنني لم أفعل كذا لكان كذا وكذا) فبالإضافة لكون هذا الأمر منهياً عنه شرعاً بتحذير المصطفى صلى الله عليه وسلم من أن (لو) تفتح والعياذ بالله عمل الشيطان فإن هذا الأسلوب أيضاً يعبر عن أحد أنماط التفكير غير الناضجة لأنك بذلك تتجاهلين كل ما تحقق من إيجابيات منها مثلاً تدخلك لإقناعه بتأجيل فكرة السيارة حتى الانتهاء من الثانوية ومساعدته بالمعلمين حتى استطاع بفضل الله تجاوز هذه المرحلة وهو أمر جيد، ثم إن مواجهة صعوبة في المراحل الجامعية الأولى خصوصاً من ناحية اللغة هو واقع عاشه ويعيشه الكثيرون غيره ولا يجب أن نعتبر هذا هو نهاية المطاف بل يجب أن يستفيد هو من هذه التجربة بالمثابرة أكثر وعدم اليأس فالفشل الحقيقي هو الاستسلام.. أما التعثُّر ثم النهوض واستمرار المحاولات فهو سمة الناجحين في كل زمان ومكان، وما من ناجح إلا وقد مر بتجارب خاطئة تعلم منها فزادته خبرة ونضجاً.. لذلك فإنني أجزم أن سفر أخيك للخارج ودراسته حتى لو لم تكتمل إلا أنها تجربة مهمة في حياته ستزيده خبرة وتصقل شخصيته أكثر.. المهم هو أن يتعلم الآن تحمُّل المسؤولية أكثر وأن يستشعر في هذا العمر أنه المسؤول الأول والرئيسي عن مستقبله، وأرى أنه ليس من الحكمة أن تظهري له ندمك على المال الذي أنفقتِه عليه لأن في ذلك نوعاً من المنّ الذي لا يأتي عادة بخير وتذكري أن أحد الأهداف الهامة لدعمك المادي له قد تحقق بالفعل فالعلاقة بينكما متميزة وقوية وهو يتعامل بمثالية وأخلاق مع الجميع وسلوكه ولله الحمد سوي وهذه أمور في غاية الأهمية كان لك بلا شك دور بارز فيها.. أما بالنسبة لوالدك فربما أنه حالياً في أوج انفعاله تجاه أخيك وقد أسقط جزءاً من هذا الانفعال عليك أنت أيضاً.. والمطلوب هو أن تتعاملي مع هذا الأمر بهدوء وحكمة ودون انفعال مضاد أو أخذ موقف دفاعي قوي لأن ذلك في الكثير من الأوقات يزيد الأمور تعقيداً بل وقد يخلق أزمات أخرى داخل هذه الأزمة وهو ما لا نتمناه.
أسأل الله لك ولأسرتك ولأخيك السعادة والنجاح.
إضاءة
لا يمكنك حل أي مشكلة بنفس مستوى التفكير الذي تسبب في وجودها من الأساس - ألبرت أينشتاين –
****
زاوية تهتم بكل ما يتعلق بالطب النفسي والتنمية البشرية وتطوير الذات.. نستقبل كل أسئلتكم واقتراحاتكم.
* دكتوراه في الطب النفسي
كلية الطب ومستشفى الملك خالد الجامعي - الرياض
e-mail:mohd829@yahoo.com