لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً بما في ذلك المدافع الأول عن الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من أربعين عاماً السيد لوثر كينغ، يعتقد أن حركة العصيان المدني السلمية التي قادها بشجاعة سوف تنهي هذا التمييز العنصري البغيض بين سكان أكبر دول العالم على النحو الذي رأينا نهايته فجر يوم أمس الأربعاء، وأن من كان ينظر إليهم على أنهم من أصول إفريقية، وبالتالي يجب حرمانهم من حقوقهم المدنية والقانونية، ومن ثم معاملتهم معاملة مذلة سوف يقود أحدهم هذه الأمة - بل العالم كله - كما تقرر أمس في السباق إلى البيت الأبيض في أضخم وأهم تنافس على رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
***
فقد فاز السناتور الأمريكي ذو البشرة السوداء الدكتور باراك أوباما وبفارق كبير على منافسه الأبيض السيد جون ماكين، ليعيد بذلك إلى الحزب الذي ينتمي إليه وهو الحزب الديمقراطي حقه بالرئاسة في مشهد تاريخي قلَّ أن يتكرر، رغم كل ما أحاط حملته من تشكيك بإمكانية قبول الناخبين لرجل أسود كي يقودهم كأول مرشح أمريكي من أصل إفريقي يصل إلى البيت الأبيض دون أن يغفر له أنه مختلط عرقيا لأب أسود من إفريقيا وأم بيضاء من الولايات المتحدة الأمريكية.
***
وفوز أوباما يمثل مرحلة تاريخية حاسمة ووجها مشرقا للولايات المتحدة الأمريكية، بتأكيد هذه الانتخابات من خلال التصويت للمرشح الأسود على قدرة الأمة الأمريكية بأن تتخلى عن وجهها القبيح - وقد فعلت ذلك - بأن مارست ما يتناغم مع مبادئها المعلنة عن حقوق الإنسان، فتعاملت ليس فقط في العدل وعلى قدم المساواة بين المواطنين، وإنما بالقبول بمن يصنف على أنه ذو جذور إفريقية ليقودها للسنوات الأربع القادمة وفي فترة زمنية حرجة تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية، لثقتها بأنه ليس هناك - ربما - من هو أقدر من باراك أوباما على تخليصها من أوجاعها وأمراضها والحالة الصعبة التي تمر بها.
***
ولم يكن أوباما ساحراً فقط وهو يلقي كلماته وكأنه يلقي قصائد في حملته الانتخابية أمام مرشحيه؛ مبشراً بالتغيير القادم في ظل ظروف اقتصادية وأمنية وسياسية بالغة الخطورة مرت وتمر بها أكبر دول العالم على مدى ثماني سنوات مضت دون أن تتمكن من معالجة أوضاعها الصعبة التي تمكنها من الإبقاء على علاقات متوازنة مع دول العالم، وعلى تفاهم مشترك مع غيرها للحيلولة دون تطور الأحداث المضرة بها وبغيرها، كما تشير إليه خريطة العالم، وإنما كان يتحدث بلغة الزعيم الواثق من نفسه بأنه الرجل المناسب في الزمن والمكان المناسبين لإنقاذ بلاده من الأخطاء والسلبيات التي جردت الولايات المتحدة من مكانتها كدولة عظمى ينبغي أن تستند عليها الدول الأخرى لمعالجة أوضاعها، إلى دولة مكروهة وخصم لكل دول العالم باستثناء إسرائيل.
***
لقد ترك الرئيس الأمريكي بوش لخلفه وضعاً اقتصادياً حرجاً يوشك أن يقوِّض أمريكا ومعها دول العالم، وأعداء في كل مكان وفي عدد من الدول والمناطق، وحروباً هنا وهناك دون أن ينتصر في أيّ منها، ومطاردة للإرهاب بينما يتمتع الإرهابيون بأكثر من ملاذ آمن، وهي مسؤولية جسيمة تنتظر الرئيس الجديد، لكنها ساهمت ضمن عناصر أخرى في نجاح أوباما والحزب الديمقراطي وخسارة ماكين والحزب الجمهوري لهذا السباق الرئاسي التاريخي بأكثر مما كان يتصوره أو يتنبَّأ به المراقبون، وبخاصة مع ظهور هذا التفوق الكبير في عدد الأصوات لصالح الرئيس الأمريكي الجديد السيد باراك أوباما.
***
ومع أنه من المبكّر الحكم على أقوال الرئيس المنتخب الدكتور اوباما، إلا أن ما آلت إليه الأوضاع في أمريكا وفي كثير من دول العالم خلال السنوات الثماني الماضية من سوء بدرجة لن تكون السنوات القادمة بأسوأ منها؛ اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، فإننا متفائلون بأن تغييراً جذرياً في سياسات وتعاملات وعلاقات الولايات المتحدة وقيادة الحزب الديمقراطي ربما أنهى هذا التوتر القائم حالياً بين أمريكا ودول العالم لتكون أمريكا في ظل أجوائها الجديدة الدولة التي يُحتكم إليها عند حدوث أي خلافات قد تنشأ، والدولة التي يعتمد عليها في أي تطورات سلبية قد تبرز في العلاقات الدولية.
***
وبالتأكيد فإن مسؤولية الرئيس الأمريكي القادم لن تكون سهلة، وأن التحدي الذي سوف يواجهه أكبر بكثير من إطلاق المسكِّنات والوعود التي كنّا نسمعها من الإدارة الأمريكية الحالية، على أن المرشح الديمقراطي سيكون بالتأكيد الخيار الأفضل والأنسب من لو تم اختيار المرشح الجمهوري الذي كان عليه أن يواصل سياسة حزبه وسلفه، مما يقضي على أي فرصة أو أمل للتغيير الإيجابي الذي بإمكانه أن ينقذ أمريكا ومعها دول العالم من هذا المأزق المدمر الذي تمر به.
***
وكعرب، فإننا نتطلع إلى الرئيس باراك أوباما بأمل أن ينجح فيما فشل فيه غيره من الرؤساء الأمريكيين السابقين، وأعني بذلك أن تسهم أمريكا بقيادته وبدعم حزبه في إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي، وهذا يتم فقط بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة التي تنص على إعادة الفلسطينيين المهجرين إلى ديارهم، والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967م، والتسريع في تطبيق ما تم الاتفاق عليه بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا لو تم فإن أوباما يكون بذلك قد أزال فتيل الحرب في المنطقة، وساهم في إحلال السلام بين دولها، ومن ثم قضى على أهم مصدر من مصادر التوتر في العالم.