في الصباح.. تُخلق الأشياء من جديد.. كأن الشمس على موعد بإعادة ما يفسده الليل..
وفي القرية..
كان الصباح في ذلك اليوم غريباً.. ومريباً أيضاً..
العصافير لم تعد تحرك أجنحتها الصغيرة كما يجب..
صوت مرتفع خلف الباب.. الناس يتحركون في كل اتجاه بوجوه متحفزة.. يبدو أن عملاً واحداً يشغلهم جميعاً.. شيء ما.. قد يكون مقدساً.. تماماً كما يحدث صبيحة عيد الأضحى..
الذاكرة التي سمحتُ لها باستيعاب ما يقع حولي ضعيفة جداً.. مثل جفني الناعس الذي يرتفع الآن ببطء شديد..
ليلة البارحة صحوت أكثر من مرة على نهيق حمير.. ونباح كلاب..
في هذه اللحظة.. الكثير من أهل القرية يتسورون جدار المقبرة.. بقي عدد منهم على السور.. وأما الآخرون فقد كانوا يتحركون في الداخل وبأيديهم فؤوس.. وهناك في الوسط منها رجال ينبشون القبور بكل ثقة.. وفيما كانت أصوات الفؤوس تنغرز في الأرض التفتُّ إليه وأنا على السور:
- ماذا يصنعون ؟
- اذهب أنت وتأكد بنفسك!
الغبار يملأ المكان.. ويملأ الأجساد.. أرجلهم.. أيديهم.. رؤوسهم.. ولحاهم أيضاً.. كلها قد امتلأت بالغبار..
أحدهم مرّ إلى جانبي مسروراً وبيده هيكل عظمي من دون جمجمة..
وآخر يركض فرحاً وبيديه عدد من العظام..
- افعل شيئاً..
- أنا حتى هذه اللحظة لا أدري ما الذي يحدث بالتحديد!
- أمير القرية أذن بأخذ عظام الآباء والأجداد إلى البيوت.. في البيوت يمكننا أن نقوم بإكرامها أكثر من هذه الحفر البالية..
كل الناس صنعوا ذلك..
مسح الغبار الذي على أنفه بظاهر كفه وقال:
- هل تعرف قبر أبيك؟
- سأحاول..
عدت مسرعاً إلى البيت وأنا ألهث..
عندما عدت.. كان الطريق إلى البيت مختلفاً تماماً..
الجلبة كلها انتقلت إلى حيث الأبواب..
هناك إلى جوار الأبواب هياكل مسمرة.. وأخرى داخل زجاج يلمع.. وعظام معلقة تحت الرؤوس مثل تلك التي توضع على صفيح الكهرباء..
الشمس وهي ترتحل للغروب ألقت بنظرتها الأخيرة وابتسمت هازئة.. ثم مضت..
تدثرت أمي بصمت غريب وأنا أسألها عن الفأس.. وحينما عثرت عليه وخرجت مسرعاً اكتفت بصمتها الغريب أيضاً!
كان الفأس ذو الناب الطويل في يدي وأنا أركض لأدرك بقية النهار.. وأقوم بما قام به الآخرون..
المقبرة خالية تماماً إلا مني أنا.. وصوت حفيف تتهامس به أقدامي وهي تلتصق بالتراب.. وفحيح صدري المتحشرج بكل ما لا أقدر على وصفه..
أكوام من التراب هنا وهناك..
رائحة تراب عتيق مختلط برميم عظام نخرة..
أين قبر أبي؟
لم أجد قبراً مرتفعاً..
كل القبور محفورة!
هل أُخذت عظام أبي؟
ربما لا يكون الأمر كذلك..
ربما..
الليل والظلام عندما تيقنا من ابتعاد الشمس هناك خلف الأفق هجما عليّ بكل قسوة..
الكلاب تقترب من السور وهي تنبح نباحاً متواصلاً..
جارنا.. الشيخ ذو اللحية الحمراء.. صاح بي عندما كنت أقطع الطريق صوب المقبرة: إن موضعه بعد القبر السادس شمالاً من الباب الجنوبي..
انطلقت صوب الباب الجنوبي..
وجهي الآن متجه إلى الشمال..
واحد..
اثنان..
ثلاثة..
أربعة..
خمسة..
ستة..
كومة من الرمل إلى جوار القبر!
القبر محفور!!
سمعت صوت أنين خافت..
اقتربت منه أكثر..
فجأة..
هجم عليّ كلب أسود وبفمه عظم.. ثم هرب وهو يصدر صوتاً قبيحاً..
بينما لم أجد في الحفرة سوى التراب..
التراب فقط!
Mam21699@hotmail.com