Al Jazirah NewsPaper Thursday  06/11/2008 G Issue 13188
الخميس 08 ذو القعدة 1429   العدد  13188

الصمت في القصيدة الحديثة
تهميشات على النظرية والتطبيق

 

(لا يزال قلقُ ماهيّةِ البيت الصامت يشكّل قلقاً عند من تناوله من النقاد)، كما يذكر المنظّر لهذه الدراسة الدكتور عبد الله بن سليم الرشيد، وهذا ما دفعني إلى إبداء رأيي حول دراسته (الصمت في القصيدة الحديثة، البناء والدلالة)، ولعل هذا الاختلاف يكون مثرياً لتكثيف الدراسة، وسأنطلق معلقاً على دراسته من النقاط التي ذكرها في ثنايا دراسته الآنفِ ذِكرُها.

(البيت الصامت) أو (البتر) وهما أليق تسميتين بهذا النوع من الفن الشعري - مع ملاحظات على (البيت الصامت) سأبديها لاحقاً - أما (المساحات البيضاء) و(السطور المنقطة) و(سطر النقاط) (الفراغ) فوصفٌ للشكل الشعري المكتوب، وليست وصفاً للشعر/ المعنى، ولهذا لم أستسغها. أما (الفواصل الصامتة) فيظهر لي أن الفواصلَ كلَّها صامتة ولا تمثل مسكوتاً عنه في التحرير العربي، بل هذه مهمة النقاط، وأن الفواصلَ إذا لم تستخدم الاستخدام الصحيح حتى في النثر فإنها ستربك المعنى. أما (الشعر البياض) فينطبق عليها ما ينطبق على (الفراغ)، ولا مشاحّة في المصطلح، ما دام كلُّ مُسَمٍّ لم يعلّل اختياره لهذا المصطلح دون ذاك.

يقول الدارس: وقد يبدو (البيت الصامت) في القصيدة العمودية غيرَ منطقي؛ لأنه يكسر الإيقاع. أما أنا فأختلف معه، فقول أحمد بهكلي:

اسألوا زوجه وجلجل في القو..

م جوابٌ سما عن الأذهان

لم يكسر الإيقاع وقد استشهد به الدكتور واستحسنه، والصمتُ هنا معنى قائم بنفسه وبشكله، وهذا بيتٌ صامتٌ، وأما قول أحد الشعراء في رثاء محمد الدرّة على لسان أبيه:

محمّ.. وجف الصوت قبل ندائي

محم.. وضاع الصوت قبل رثائي

(.............................

.............................)

فهو في نظري بتر أو صمتٌ وليس بيتاً صامتاً؛ لأن البيت الصامت أن أجعل مكان البيت كلِّه أو السطر كلّه نقاطاً تعبر عن المعنى، كما في بيت أحمد بهكلي السابق ذكره، ولكنه في بيت (محمد الدرة) بترٌ لم يُربكِ الإيقاعَ، فتفعيلات البيت تامة، مع أن الشاعر وظّف البتر توظيفاً خدم الصورة. ولو أنه قال:

... وجفّ الصوت قبل ندائي

... وضاع الصوت قبل رثائي

لكان هذا مُخلاً بالإيقاع، وهنا محل الخلاف حول التسمية بالبيت الصامت وعدم اطرادها، وفي رأيي أن التسمية الأصحَّ هي (البيت الصامت) إذا قامت النقاط مكان بيت كامل أو سطر بأكمله، وصمتٌ أو بتر - مع ميلي إلى الثاني - إذا قامت النقاط مكانَ جزءٍ من البيت أو السطر ولم تُخلَّ بالإيقاع، أما إذا أخلّت بالإيقاع فهذا حذفٌ وليس بتراً أو صمتاً، مثل قول الشاعر عرار:

لا زرتُ قبركَ تحدوني......

ولا رثيتك إبراهيمَ طوقانِ (1)

فهذا حذفٌ لشيء خاصٍّ، وقد يكون في مواضعَ أخرى حذفاً لشيءٍ يُستحيى من ذِكره أو يُخشى، ومثل هذا لا أسميه صمتاً ولا بتراً، كقول سميح القاسم:

لو هزنا أن يصنع الأعداء

... ... من حذوة الحصان

ما أصبحت حبيبتي

وجهاً من الدخان (2)

ولا أميل إلى ما ذهب إليه الدكتور الرشيد من أن محاولاتِ إدخالِ البترِ في الشعر الحديث لا تخلو من تسرع تسمه اللفظة أحياناً، وقد مثّل لها بقول السياب:

(سأهواك) ما أكذب العاشقين!

(سأهوا...) نعم، تصدقين.

وقال - نقلاً عن بدوي طبانة: إن تقنية الصمت في هذا التكرار اللاشعوري أخفقتْ في مؤازرة الحالة النفسية؛ إذ إن السياق الذي وضع فيه بدر تكراره اللاشعوري مفتعل قليلاً؛ فهو يملك من الوعي ما يجعله يرد على العبارة ويناقشها: (ما أكذب العاشقين!) و(نعم تصدقين). وأرى أن قول السياب (ما أكذب العاشقين!) و (نعم تصدقين) هو ردٌّ على وعودٍ مِن نوع (سأهواك حتى) وردُّه جاء على سبيل المسكنة - كما تبادر إلى ذهني -، ألم يقل أحمد بهكلي بعد البيت الصامت الذي سبق ذكره:

أيها الفارس النبيل ولم تث

نِك عن عزمك الأكيد الثواني

ومع هذا فلم يكن هذا مفتعلاً في نظر الدارس، على أننا متفقون على أن الشعر كلَّه مرتكز إلى جوِّ اللاوعي، وقد يكون السياب أراد ب(سأهواك حتى...) ثم بترَت الحبيبة الكلام، وقبل أن تبتره فاجأها بردّه: (ما أكذب العاشقين!)، ثم بعد أن بترَت الكلام - أو تداركَت - قالت: (سأهوا...) ولم يُورِد بدر أنها قالت - مثلاً-: (سأهواك كذباً...) ولكنه جلاّه لنا بقوله: (نعم، تصدقين).

وقد ذكر الدارس الدكتور الرشيد أن الشاعر البهكلي أغلق النص حين أشار في الحاشية إلى أن: (الفراغ أُثبت كمحل للجواب...) وها هنا أحب أن أذكر تعليقين، أولهما: أن الإشارة إلى ذلك أغلقت النص وما يمكن أن يوحيَه البيت الصامت، بل إن كلّ شرح للشعر من قِبل الشاعر حتى في الشعر التقليدي يغلق النص في ذهن المتلقي، فما زلتُ أستمتع بقراءة قصيدة أمل دنقل (لا تصالح) وأضع لها بعد كل قراءةٍ تفسيراً مغايراً للسابق حسب النفسية، إلى أن قرأتُ حواراً للشاعر فسّر فيه النص وفكّك الرموز (3) فأصبح النص محضَ تعبيرٍ مغلقٍ عن الواقع. وثانيهما: أن ما ذكره الشاعر البهكلي بعد البيت الصامت قد حسر من مساحة انفتاح النص - حتى لو لم يورد الشرح في الحاشية -، فلو جعل البيت الصامت قفلةً شعريةً لكان أجمل - في نظري - وأرحبَ.

أما ما ذكره الدارس حول إسراف بعض الشعراء في وضع النقاط، فهذا ما لم يحسنه شعراؤنا بعدُ، ولكنّ ثمة رأياً - كما أزعم - مخالفاً لتطبيق الدارس حيث أورد قول الشاعر حسين علي محمد:

واتشحت بالحزن

فأين ورودك

....

صمتتْ

....

قولي لفظة شهدٍ فالأيام مريرة

وعلّق عليه: (كان الأولى به أن يلغي قوله (صمتت)؛ لدلالة البيتين الصامتين عليه، أو أن يبقيَه ويلغي النقاط). وما دام النص الحديث مساحةً هائلةً لاختلاف التفاسير، فأنا أرى أن الشاعر بعد البيت الصامت الأول تطاول الصمتَ فقال متضجراً: (صمتت) ثم إنها استمرّت في الصمت مرةً أخرى فقال: (قولي لفظة شهدٍ فالأيام مريرة)، وفي موضعٍ آخرَ مَثّلَ الدارس بقول بُلند الحيدري:

(- اصمت... اصمت

...............

وصمتُّ.. وها إني

أسقط في بُعدي الأول)

وقال بعدها: فقد جاء بيته الصامت هنا استجابة للذي قبله (اصمت.. اصمت) وحينئذ يمتزج صمت القارئ بصمت الشاعر الذي يؤكد صمته بعد ذلك تصريحاً (وصمتُّ..) وهنا أتساءل: ما الذي جعل (وصمتُّ) في بيت بلند الحيدري تأكيداً للبيت الصامت المعبر عن الصمت، وجعلها في بيت حسين علي محمد مرادفةً لقوله: (صمتت) ولم تُضف شيئاً؟

وقد استحسن الدارس قول بدر السياب:

عصافير بل صِبيةٌ تمرح

وأعمارهم في يد الطاغية

وألحانها الحلوة الصافية

تغلغل فيها نداء بعيد

((حديد عت.......يق

رصا......ص

حدي.......د))

وقال : إن هذا استخدام جيد للبتر أو الصمت، وأنا أرى أنه ليس بتراً ولا صمتاً، بل إن هذه النقاط تعبير عن إطالة الصوت بهذه الكلمات تعبيراً عن أنه (نداءٌ بعيد) بدليل أنه لو حذفنا النقاط لأصبحَت الكلمات: (حديد عتيق، رصاص، حديد)، وقد أشار الدارس بعد أبيات السياب إشارةً تعطي المعنى الذي أميل إليه، ولكنه ناقض قوله قبل الأبيات مباشرة: (إن لجوء الشاعر إلى الصمت أو البتر يأتي استجابة لأغراض ومهام فنية تعطي لغة الشعر كثافة شعورية وتركيزاً في الدلالة، والإفصاح عن القيم الشعورية وتلوين المعنى) ثم أورد أبياتَ السياب.

وقد أشار الدارس إلى قول الشاعر:

من أي بركان صبغتَ دمي

بألوان التشوّق......

والتشهي والتوجع

وقال: (إن بين التشوق والتشهي امتداداتٍ دلاليةً تُذهب القارئ في التصور ليدرك المراد). وأنا أوافقه في ذلك على مضضٍ؛ لأن تدرّج البناء يقتضي التشوّق فالتشهي فالتوجّعَ، وإقحامُ حالةٍ نفسية بين التشوق والتشهي أو التشهي والتوجع - مع إمكانية ذلك - قد يكون إسرافاً في التصوير وحشواً، ولكن الاستخدام قد يسوء أكثر في مثل قول محمد إبراهيم يعقوب:

عبثاً يَصبُّ الشاي

في كأس الوعود المبهمةْ

ويسائل الجرح المرير

(أقطعة... أم قطعتان) (4)

فإن النقاط بين (أقطعة.. أم قطعتان) لم تُضف شيئاً، لأن التدرّج حتمي بين (قطعة وقطعتان) ولو أنه قال مثلاً:

(أقطعة... أم أربعٌ) لكان وجود النقاط مقبولاً في السطر، على أن الفرق المسكوت عنه بين (قطعة وأربع) لا يُحتاج معه إلى النقاط، وليس معنىً حريّاً بأن يذهب القراء في تصوّره مذاهب متباينةً، كما أن ما يذكره الشاعر من وصف للحالة التي توحيها النقاط يمثل حسراً لمساحة الإيحاء في النقاط، سواء كان الإيضاح في الحاشية كما أورد الدارس في قول أحمد بهكلي، أو كان ذلك في القصيدة نفسها، مثل:

مات حلمي معكْ

مات حلمي معكْ

............

جف نبض الكلام على شفتيَّ

وأغضى القصيد فما ودعكْ (5)

فإن قوله: (جفّ نبض الكلام) شرح سافرٌ للنقاط وإيحائها - في زعمي -، ولو أنه استطاع أن يلمح إلى ذلك إلماحاً أو يجعل النقاط تعبيراً مستقلاً، لكان للنقاط جمالٌ غير هذا.

وذكر الدارس قول بُلند الحيدري:

(......... وخرجت الليلة

كانت في جيبي عشر هُوياتٍ تسمح لي

أن أخرج هذي الليلة)

وقال: (إن الصمت الذي جاء مطلعاً للقصيدة كأنه خروج من فكرة باطنة لم ينبس بها الشاعر). والذي أزعمه أنا أن الذي أوحى له بذلك ليس النقاط، وإنما الواو التي جاءت في المطلع (...وخرجت) وكأنها عطف على شيءٍ لم يَبُحْ به الشاعر، ولو أننا حذفنا النقاط من قول بلند الحيدري لما أخلّ ذلك بالإيحاء الذي تضفيه الواو. يعضد رأيي هذا قولُ ديك الجن في مطلعِ مقطوعة له:

لا وحبّيك ما مللت سقاماً

لك فيه من مقلتيك نصيب (6)

فإن ابتداءه ب(لا) قائمٌ مقام الجواب عن سؤالٍ من الآخر أو اتهامٍ منه في حديثٍ دار بينهما، ومن هذا الرأي يَضِحُ لي أن النقاط ليست وحدها الدليلَ على البتر، بل إن ابتداء النصِّ بحرف عطفٍ كقول بلند الحيدري: (وخرجت الليلة) وقد سبق ذكره، أو إجابة عن سؤال لم يرد في النص، كقول حسين العروي:

لا لا تعد... إني قتلتك.. قصتي

خُتمت... ستقرأ في غدٍ تأبيني (7)

لا ليس مفتتح القصيدة ما ترى

ألقاً... يمازجه انبثاق السرمد(8)

كافٍ لأن يمثّل الصمتَ، وقد يكون الصمت تعبيراً عن شيء يمكن تحديده خصوصاً إذا كانت القصيدة تتكئ على الحوار، كما في قول البردوني في قصيدة (سندباد يمني في معهد التحقيق):

جوازاً سياحياً حملتَ ؟.. جنازةً

حملتُ بجلدي، فوق أيدي رواسبي

... من الضفة الأولى رحلتُ مهدَّماً

إلى الضفة الأخرى حملتُ خرائبي(9)

فقوله: (من الضفة الأولى...) دليل على سؤال لم يذكره الشاعرُ، هو - مثلاً - (من أين رحلتَ وإلى أين؟)، وهذا الجواب قد بيّن لنا السؤال المصموت عنه، وإن الجواب (من الضفة الأولى) وحده هو الذي أوحى بسؤالٍ لم يرد في النص، وليس النقاط. وقد يكون ابتداء مقطعٍ مستقلٍّ من القصيدة بحرف عطف أو إجابةٍ تعبيراً عن الصمت، كما في أبيات البردوني التي سبق ذكرها.

وأشير هنا إلى أن حذف المحققين لما يُستحيى من ذكره في الدواوين الشعرية القديمة قد يوحي للقارئ الذي لا يدرك الإيقاع في الشعر أن هذا بترٌ أو صمتٌ.

المراجع

(1) مصطفى وهبي التل، عشيات وادي اليابس ص413.

(2) سميح القاسم، الأعمال الكاملة ص278 .

(3) جهاد فاضل، أسئلة الشعر ص43 .

(4) محمد إبراهيم يعقوب، رهبة الظل ص63 .

(5) عبد الله بن سليم الرشيد، حروف من لغة الشمس ص41 .

(6) ديك الجن الحمصي، ديوانه ص35 .

(7) حسين العروي، قصائدي انتظار ما لا ينتظر ص19 .

(8) حسين العروي، قصائدي انتظار ما لا ينتظر ص137

(9) عبد الله البردوني، الأعمال الكاملة ج2ص508 .

سعود بن سليمان اليوسف


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد