.التجارة باب من الأبواب التي فيها تسعة أعشار الرزق كما جاء في الأثر، مارسها وعمل بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، وهي وسيلة من وسائل عمارة الأرض، والدعوة ونشر الإسلام، وقد استطاع التجار المسلمون أن ينشروا الإسلام في أصقاعٍ كثيرة وصلوا إليها ومارسوا فيها تجارتهم مثل الصين والهند وإندونيسيا، وإفريقيا وأماكن عدة في العالم، ومن المؤسف أن نسبة كبيرة من التجار المسلمين تخلوا عن آداب التعامل التجاري القائم على الأخلاق، والصدق، والأمانة، والبعد عن الغش، فقاعدة (رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى) وقاعدة البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعها، وإن كذبا وأخفيا محقت بركة بيعهما، وقاعدة إقالة المغبون التي حث عليها الإسلام معمول بها في الغرب، فالمشتري له الحق في إعادة السلعة خلال فترة قد تمتد إلى ثلاث أيام، وإذا ثبت أن في السلعة خلالاً معيباً فإنها ترد في أي وقت وأن هذه الآداب قد انتقلت إلى الغرب فمارسها التجار مع زبائنهم، وأصبحت جزءاً من ممارسة العمل التجاري على مستوى الأفراد والمؤسسات، وهذا ما حدا بالإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى أن يقول عندما عاد من الغرب (لقد وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين). أما في شرقنا فكثيراً ما نرى عبارة (البضاعة التي تباع لا تُرد ولا تستبدل) معلقة في المحلات التجارية، وفي الأسواق، وهو أسلوب يتنافى مع مبدأ التسامح ومع مبدأ إقالة المغبون، وإذا كان ولا بد من هذه العبارة فيجب تقييدها كأن يقال (البضاعة التي تباع لا ترد ولا تستبدل إذا استخدمت) أو (لا ترد ولا تستبدل بعد 36 ساعة) وهكذا، والتاجر الذكي يجب أن يفرق بين الزبون الجاد والزبون المتلاعب فيعامل كلا بما يستحق. يروى فيما مضى أن شخصاً من بلاد الشام عز على الحج، وكانت رحلة الحج شاقة ومضنية، والذاهب إليه مفقد، والعائد منه مولود، لكثرة قطاع الطرق، والمفازات، والضياع والأمراض، وغيرها، فجمع ماله وكان يتكون من عشرات من الجنيهات الذهبية، ووضعه في صرة حمراء، ومر على سوق دمشق، ودخل دكان تاجر توسم فيه الخير والصلاح، وأخبره أنه عاز على الحج، ويريد أن يودع عنده المال، فأخذ التاجر الصرة، وعد الجنيهات، ثم أودعها في صندوق تحت مكتب أمامه، وطلب من الحاج أن يدعو له عندما يصل إلى الأماكن المقدسة، غادر الحاج، واستغرق سفره ذهاباً وعودة وقتاً طويلاً، ذهب إلى سوق دمشق ليسترد ماله، ودخل دكاناً، وكان فيه عدد من التجار يتبادلون الحديث مع صاحب المحل، فقال الحاج: لقد عدت من الحج بحمد الله وسلامته وأريدك أن تعطيني المال الذي ودعته عندك، فقال التاجر: كم مقداره. فرد الحاج: لقد عددته عندما أعطيتك إياه!! فقال التاجر: لقد نسيت، فأخبره بالمبلغ. فمد التاجر يده إلى خزنته ونقد له الجنيهات التي طلبها. فقال الحاج: أين الصرة الحمراء؟! فقال التاجر: لقد احتجتها وتصرفت فيها، ولكن سأعطيك صرة بدلاً عنها!! خرج التاجر بعد أن وضع الصرة في جيبه، ولم يسر إلا بضع خطوات حتى وجد نفسه أمام دكان التاجر الذي أودع عنده المال. فقد كان هناك شبه بين الدكانين، وبين التاجرين، وعندما دخل عرفه التاجر، ونهض لتحيته، وتهنئته بالسلامة، وفتح صندوق وقدم له الصرة الحمراء بما فيها من جنيهات. عاد الحاج إلى التاجر الأول وأعاد له المال، وسأله عن السبب الذي جعله يعطيه ذلك المبلغ وهو يعلم أنه ليس له؟! فقال التاجر: أولاً: أنك قلت إنك عائد من الحج وهذا تعكسه هيئتك وسيماك، وهذا ضمان بأنك لم تكن نصاباً أو كذاباً، وثانياً: كان في دكاني مجموعة من التجار الكبار، فلم أرد أن أهز ثقتهم فيّ، وكان لدي إحساس بأن مالي سوف يعود إليّ إن عاجلاً أو آجلا. ومن جانب آخر أوصى حكيم ابنه التاجر فقال: (يا بني إذا انتبهت من نومك، وعملت بما أمَرتْك به العلماء، وصليت الواجب عليك، ومضيت متوجهاً إلى دكانك لطلب المعاش، وفتحت الدكان فسم الله تعالى.. فإذا جاءك إنسان فأكرمهم على حسب مقداره، بل أزيد، واكظم غيظك، وغض بصرك عن جارك، واقنع في كسبك، واقتصد في نفقتك، وبادر بالصدقة، وشرف نفسك عن الاندلاق على الزبون، فإنه يستنذلك، واتكل على الله، فما كان لك سيصلك، ولا تتهاون في طلب الرزق، ولا تستكثر منه، فإن الإهمال يوجب الفقر، والإكثار يوجب الذلة والتعب، ولا تخرج من بيتك إلا وأهل بيتك راضون عنك، داعون لك، ولا تعاد أحداً من خلق الله تعالى.. ودار بمالك عن عرضك.. ولا تكثر الكلام في البيع والشراء، وزن كلامك قبل أن يخرج من فيك)، وهذه الوصية تحمل كثيراً من النصح لكل صاحب عمل، ولكل من له علاقة مباشرة بالجمهور. ويجب على كل من يشتغل بالتجارة أن يتذكر دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا).
أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية.
zahrani111@yahoo.com