Al Jazirah NewsPaper Friday  31/10/2008 G Issue 13182
الجمعة 03 ذو القعدة 1429   العدد  13182
الليبرالية بين قيادة المرأة للسيارة وتكفير البشرية
د. عبدالله بن سعد العبيد

كنت قد كتبت في هذه الجريدة مقالاً أغضب الكثير ممن يدعون فهمهم سواءً لليبرالية أو العلمانية، ولكن دافعي في ما قمت ببحثه وجمعه ومحاولة استكشافه وتفسيره آنذاك هو توضيح مفهوم زعم وجود المدرسة العلمانية العربية، وتبيان الفروقات ليس فقط في مفهوم الليبرالية الغربية وقرينتها العربية

بل وفي انسياق الكثير ولهثهم خلف مفهوم الليبرالية ومحاولة إلصاقها بهم ليتم استغلال إيجابياتها لتبرير وتمرير الكثير من أفكارهم ومفاهيمهم في محاولة للضغط على التيارات الأيديولوجية الأخرى من خلال ما توفره الليبرالية من إيجاد مساحة واسعة لتحرير العقل، واعتمادها التحليل المنطقي للأمور ناسين أو متناسين مفهوم الليبرالية الواسع الذي يحرر العقل بحق لكن ضمن ثوابت عقائدية معينة بعكس المنهج العلماني الذي يعتمد حتمية تناقض العلم مع الدين، وذلك بالمفهوم الكلي لكل من العلم والدين، دون النظر إلى أي خصوصية لهذا الدين أو ذاك، أو بحث في أوجه الخلاف بين الدين الإسلامي الذي يراد عزله وبين المنهج العلمي التجريبي الذي كان قد نشأ أصلا تحت مظلة الإسلام في عصره الذهبي.

لم يدر بخلدي إطلاقاً هذا الكم الهائل من الخلط الحادث بين الليبرالية والعلمانية من جهة وبين أتباع التيار الديني في نظرتهم لمفهوم الليبرالية من جهة أخرى، فقد اتضح لي من خلال متابعتي اندفاع كثير ممن يعتقدون بوجود الخلاف النظري بين مفهوم الليبرالية والدين، اندفاعهم لتكفير معتنقي هذا المفهوم أو ممن يحملون صفة الليبرالية. متناسين بشكل صريح محاولة البحث والتحري في مضامين مفهوم الليبرالية وعدم تعارضها مع الثوابت العقائدية في أساسها التي نشأت عليه إلا ممن اعتنقوها فقط لتمرير عقائد معينة عبرها أو لصناعة وخلق هذا التصادم الحادث حالياً.

لقد تم تصوير الليبرالية فيما مضى من زمن على أنها مولود العلمانية أو أنها خارجة من رحم العلمانية برغم معرفة من يذهب بهذا الزعم أن ثمة فروقات كبيرة بين الليبرالية والعلمانية ولست من الذين يرون ذلك أو يدعون معرفتها بل هي موجودة في أمهات الكتب لو كلف أحدهم عناء نفسه بالبحث والتقصي بحيادية بغية الكشف والكشف فقط عن ماهية الأيدولوجيتين دون أن يكون في بحثه دافع كامن لترجيح تصور معين كان قد تم إعداده سلفاً. تلك الكتب التي تشهد براءة الليبرالية من جل ما تتهم به الآن من قبل من لم يرغب البحث والتقصي في حقائقها وحيثياتها.

خشيت قبل أن أزعم ما كان يدور بخلدي أن أكون قد تجنيت على أحد أو ظلمت أحداً لكن متابعتي لهذا الكم الهائل من معادي الليبرالية ومحاولة إلصاق كثير ممن يعلمون وممن لا يعلمون كثيرا من الصفات غير المحمودة بها جعلني أزعم دون خوف أو تردد من ظلم أحد أن من ذهب لتكفير معتنقي الفكر الليبرالي هم أول من استخدم هذا الفكركغطاء وصبغة من أجل تحقيق غايات وأهداف لتدمير البشرية. فقد ذهب كثيرون إلى تصوير الليبرالية على أنها تحرير العقل من جميع القيود بما فيها تلك الثوابت العقائدية الدينية وأن معتنق الليبرالية هو من يعبر عن قناعاته فيستطيع حينئذ أن يقوم بتكفير فلان وهدر دم فلان بحجة عدم توافق ما ذهب إليه مع ما يعتقده هذا الليبرالي المزيف. من هنا تم استخدام هذا الفكر بطريقة همجيه سلبية لا تعتمد على أساس مذهبي أو أيدولوجي معين وإنما تجد معظم من اعتنق الليبرالية لا مضمون لديهم في خطاباتهم إن وجدت بل إنهم لا خطابات ولا منهج يسيرون على هداه.

كيف يستطيع ثلة من الشباب صغار السن الذين يقودهم كبيرهم أن يقتنعوا بضرورة تكفير جماعة معينة تؤمن بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا من خلال تسخير فكر الليبرالية المشكلة بطريقة كبيرهم التي تعطيهم مساحة واسعة من تحرر العقل بما فيه زوال الوازع الديني من حيث لا يدرون ثم يقومون بذلك التكفير الذي يقودهم بالنهاية إلى ارتكاب جرائم بشعة بحق الإنسانية.

هؤلاء هم من قلب الطاولة الآن على كل من يحاول أن يمد يده لتقدم الشعوب بحجة أنه ليبرالي، ليبرالي حقيقي وليس ليبراليا على شاكلتهم، فالليبرالية الحقيقية لا تتعارض والثوابت الدينية وهي حرية مقيدة وليست حرية مطلقة كالعلمانية وهذا مايريد كثير من معارضي تقدم الشعوب إثباته، وأعيد هنا أن الليبرالية تدعو إلى تحرر العقل دون المساس بالثوابت الدينية ولكنها تطالب بأن تتسع دائرة الحظر ربما المفروضة على بعض المسلمات الدينية بغية معرفتها والاضطلاع عليها وهذا لاريب ولا تثريب فيه، فأنا مسلم ولي الحق أن أخرج خارج حدود الدائرة الضيقة الخضراء التي رسمها لي أساتذة المواد الإسلامية في مراحل الدراسة المبكرة، أريد أن أخرج إلى الدائرة الصفراء ثم البرتقالية وأقف عند الحمراء ولا أقترب منها، لدي العديد من التساؤلات حول كثير من جوانب الدين الذي أعتنقه من حقي أن أتعرف عليها دون أن يمنعني أحدهم بقوله إنها من المسلمات التي لا ينبغي أن يتم النقاش حولها، لماذا؟ أو لست مسلماً؟ إذا فقل لي لماذا واشرح لي وأجبني حتى أكون مطلعاً على كل جوانب ديني الذي اعتنقته ومؤمناً به وسأظل مؤمناً به رغم حتف أنوف من شاء ومن أبى.

أعود لأقول هؤلاء هم من قلب الطاولة ضد كل تغيير في المجتمع، وأصبح كل مناشد للتغيير هو ليبرالي كافر. تخيلوا ليبراليا كافرا في حين أن أحداً لم يتطرق للعلمانية وكفرها البواح. إذا أردت تقدماً في مجال تقني معين فأنت ليبرالي تطالب بالخروج عن المألوف وأنت كافر. إن أردت أن تعمل المرأة، قالوا أنت ليبرالي كافر، إن أردنا أن تقود المرأة السيارة قالوا لمن ينادي بذلك أنت ليبرالي كافر. باختصار كل مايرمي إلى تقدم المجتمع يعتبر من صلب الليبرالية الكافرة.

قد يخرج من يقول، وهل في قيادة المرأة للسيارة تقدم لحضارتنا، أو هل في عمل المرأة سنخطو نحو التقدم المنشود؟ الأمر ليس هكذا، ولا يجب أن ينظر له بهذه الطريقة العقيمة والأفق الضيق، لم يكن تعليم البنت يوماً ضرورة ولم يؤمر ولي أمر فتاة أن يجعلها تخرج لتعمل معلمة أو لنقل طبيبة تخالط الرجال، ولم تمنع المرأة من ممارسة التجارة ولم يجبر أحدهم على الخروج بابنته أو زوجته أو أخته للجامعة كدارسة أو طالبة، ولم يطلب من ولي أمر أن يستخرج جواز سفر به صورة زوجته أو ابنته إن لم يرد، ولم يجبر أحدهم أن يصدر بطاقة أحوال لإحدى محارمه، فمابال القوم ثارت ثائرتهم من قيادة المرأة للسيارة، وهل إن أجيز ذلك وهو غير مخالف لثوابت ديننا الحنيف، هل إن أجيز ذلك سيلزم كل رجل أن يجعل محارمه يقدن السيارات، إنها يا إخوان حرية شخصية، إنها ليبرالية شخصية من يريدها فليأخذها ومن لا يرغب بها فليتركها.

إنها الليبرالية الحقة التي تفيد معنى الحرية الشخصية ضمن الأطر المسموح بها دينية وأخلاقياً، إنها الليبرالية التي تعني الحرية المقيدة وليست الحرية المطلقة، إنها الليبرالية التي لا تقترب من الخطوط الحمراء. أرجوكم فرقوا بينها وبين العلمانية فالأولى صفة شخصية تحترم ثوابت وعقائد الأديان وهي مقيدة وتسمح بهامش لتحرير العقل، والثانية تفصل بين الدين والحياة. أرجوكم لا تخلطوا المفاهيم لمجرد الرغبة في عدم قبول أحدكم لنوع من التقدم، أرجوكم لا تخلطوا بين الليبرالية والفرنكفونية والماركسية والشيوعية والعلمانية، لكن أكثر وضوحاً وصراحةً، لنرفض مطلباً اجتماعياً بمبررات يقبلها العقل دون إقحام مصطلحات على نحو مغاير لمعانيها لمجرد محاولة لإقناع جماعة من الأفراد ربما لا علم لهم بالأمر. إن أردنا فعلاً محاربة قيادة المرأة للسيارة فلنسارع لتنظيم أنفسنا ونستجلب الأفكار التي ربما تكون أكثر إقناعاً إذا كانت من واقعنا الاجتماعي، بدلاً من اللجوء إلى المصطلحات الإيدولوجية التي قد تكون في صالح الفكرة وليست ضدها.

إن كان لدينا ما يبرر الوقوف ضد أي مشروع اجتماعي سواءً قيادة المرأة للسيارة أو خلافه، فلنتقدم بأسباب واقعية مسموعة لها تأثيرها بما تحمله من مضامين ودوافع ربما اجتماعية أو أخلاقية - حيث لن نسمح بتمرير مشروع مخالف لشرع الله سبحانه وتعالى - وطالما مشروعاتنا الاجتماعية التي تتم المطالبة بها لا تتعارض وديننا الحنيف فلتكن أسباب رفضنا لها من منظورنا الاجتماعي الواقعي. وفي نهاية المطاف أنت وأنا وغيرنا غير مجبرين على التقيد بذلك التطور، فمن رغب به فليكن له ما أراد ومن رغب عنه فليتركه.



dr.aobaid@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد