Al Jazirah NewsPaper Sunday  26/10/2008 G Issue 13177
الأحد 27 شوال 1429   العدد  13177
الاقتصاد الخفي والأزمة المالية العالمية
د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني *

يبدو لي أن من أهم الأسباب الرئيسية للأزمة المالية العالمية يعود لما يعرف بالاقتصاد الخفي، فالرأسمالية التمويلية في العقود الأخيرة تحولت في جانب كبير منها إلى أرقام في الهواء، لا يوجد فيها استلام ولا تسليم، وكثيرا ما تقدر الأمور بأضعاف قيمتها، وعندما تنكشف الأمور لا يستطيع المقترض أن يدفع للبنك قيمة ما اقترضه؛ لأن ما رهنه لا يساوي شيئا مقابل القرض الذي تسلمه وأضاعه هنا وهناك، يضاف إلى ذلك أن هناك صفقات كبيرة تجري في الخفاء هدفها ليس عمارة الأرض، وإنما تدميرها وإلحاق الضرر بهذا الطرف أو ذلك، وأكل أموال الناس بالباطل، ومن جانب آخر، كان هناك حرب شعواء على الأعمال الخيرية التي تنقذ النفوس، وتعمر الأرض، وتكفل الأيتام والأرامل، وربما أدت هذه الازدواجية المتعلقة بتشجيع الباطل ومحاربة الخير إلى وجود الأزمة المالية العالمية اليوم، فالله هو الذي يدبر هذا الكون وله جنود السماوات والأرض لا يعلم جنده إلا هو، ولا شك أن الاقتصاد واحد من تلك الجنود، ولعل أبرز عمليات الاقتصاد الخفي تتمثل في عمليات غسل الأموال الآتية من طرق محرمة، ويعرف بعض المتخصصين (الاقتصاد الخفي) بأنه (تلك النشاطات الخفية غير المسجلة رسميا في الحسابات القومية للدولة) وهو في نظري كل عملية اقتصادية يسعى أصحابها لإخفاء حقيقتها لأنها غير شرعية أو تستخدم لغرض غير مشروع.

ويصعب معرفة أعداد الأشخاص الذين يمارسون عمليات الاقتصاد الخفي، وخاصة العمليات غير المشروعة منها، لأن ممارسيها أكثر حرصا على إخفائها وسريتها، ولهذا يصعب تحديد حجم الدخل المتولد عنها واتجاهاته. ورغم تلك الصعوبات هناك تقديرات مختلفة لحجم عمليات غسل الأموال التي تمثل النسبة الكبرى من الاقتصاد الخفي، وترتبط في معظمها بعصابات الجرائم المنظمة، وتمر عبر عمليات كثيرة ومعقدة.

يذكر المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي قبل عدة سنوات أن حجم غسل الأموال يتراوح ما بين 2% و5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهذه النسبة تعادل ما بين 500 مليار دولار و1200 مليار دولار. وتشير تقديرا بعض المنظمات الدولية إلى أن حجم الأموال القذرة التي تجري عليها عمليات الغسل تتجاوز حجم التجارة الدولية للبترول!!. وتقدر تلك العمليات في أستراليا من 4% إلى 12% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي ألمانيا من 2% إلى 11% وفي إيطاليا من 10% إلى 33% وفي اليابان من 4% إلى 15% وفي إنجلترا من 1% إلى 15% وفي الولايات المتحدة من 4% إلى 33%.

ويقول طلعت زكي حافظ: (إن الإحصاءات تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم من حيث حجم الأموال غير المشروعة، إذ تقدر كمية الأموال غير المشروعة المتداولة فيها بنحو 471 مليار دولار، وأن الأموال التي تم إجراء غسلها من هذا الرقم بلغت نحو 283 مليار دولار. كما يقدر حجم الأموال التي تم تداولها من خلال أسواق البورصات العالمية وتم غسلها 130مليار سنويا على مستوى العالم) (مجلة الاقتصاد، العدد 94). ولكن الأرقام تضاعفت عدة مرات حسب المؤشرات التي ظهرت مؤخرا، فقد أفاد تقرير رسمي أميركي صدر هذا العام 2008م أن حجم تجارة غسيل الأموال يصل حاليا إلى نحو 3.61 تريليون دولار، وهو أكبر من الميزانية الأميركية الراهنة، وما يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد العالمي. وأوضح التقرير الذي أعدته وزارة الخارجية الأميركية ورفعته للكونغرس، أن غسيل الأموال تضاعف بشكل صاروخي على مدى العقد السابق بعد أن كان يبلغ 300 - 500 مليار دولار في عام 1997م، مشيرا إلى أنه أصبح من الواضح بشكل متزايد أن المعادن النفيسة والأحجار الكريمة تستخدم لغسيل الأموال ونقل القيمة وتمويل الإرهاب.

أما في الدول النامية فإن التقديرات تجعل عمليات غسل الأموال تزيد عن نصف الناتج الوطني الإجمالي، يساعد على ذلك أن نسبة كبيرة من معاملات الأفراد في تلك الدول تتم بصورة نقدية ويقل حجم التعامل مع الجهاز المصرفي بالمقارنة بما هو عليه الحال في الدول المتقدمة حيث يرتفع مستوى الوعي المصرفي لارتباط معظم العمليات إن لم يكن كلها بالمصارف. ويرى د. حمدي عبدالعظيم عميد مركز البحوث بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية بمصر أن حجم غسل الأموال من تجارة المخدرات في العالم العربي 70 مليار دولار.

والدول العربية بما في ذلك المملكة العربية السعودية ليست بمنأى عن التأثيرات الدولية، وربما كانت في أحيان كثيرة هدفا للمنظمات الإجرامية الدولية. ويجب أن نتذكر دائما أن العالم يزداد صغرا كل يوم، وتزداد التفاعلات بين أطرافه المختلفة، ويصبح النظام فيه متشابكا، ولهذا يهتز العالم كله بقدر ما تهتز الدول المؤثرة فيه، فكلما كبر حجم الدولة، وكبرت مكانتها الاقتصادية والعلمية كبر تبعا لذلك تأثيرها على العالم، وما الأزمة المالية الحالية إلا تأكيد لذلك فهي بدأت من أمريكا بمشكلة الرهن العقاري، ولكن نارها وأوارها وصل إلى العالم كله على اختلاف في حجم الأضرار حسب كل دولة، وتبقى أمريكا هي المتضرر الأكبر على المدى البعيد، وقد تكون هذه الأزمة فرصة لمراجعة النفس، والبعد عن الأنظمة التي تشجع على أكل أموال الناس بالباطل، وتجنب الوقوف ضد أعمال الخير، والتزام طريق العدل والصدق والإنصاف.



zahrani111@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد