يتكرر كثيراً ذلك المشهد وذلك السيناريو الذي يشاهَد في أروقة المدارس، حكاية ذلك الطالب المتفوق صاحب الدرجات العالية والامتيازات الدائمة من المعلمين والإداريين في المدرسة، ذي الطبيعة الخجولة والانطوائية، يخشى الضوء وتربكه التجمعات في الفسح والتكتلات الطلابية في الأنشطة اللامنهجية، ولا أفهم كيف لذلك الطالب الذي يحرز أعلى العلامات، ويتبوأ المراتب الأولى في جميع المواد بما فيها مادة النحو والبلاغة والنقد، أن تكون أحاديثه متعثرة وجمله مرتبكة وغير واثقة!.
بينما الطالب صاحب الدرجات المتدنية، الذي يثير غضب المعلمين غالباً، وهو مصدر إزعاجهم وشكواهم الدائم، قادر على أن يسحر الطلاب بأحاديثه الشيقة، وقصصه التي عادةً ما تكون ذات نكهة خاصة وطعم لذيذ.. وهو نفسه القادر على تحويل توبيخ المعلمين له إلى شيء مميز وطريف، هو أيضاً قادر على أن يقنع الجميع بأنه مميز ومؤثر ومحبوب بجمله الأنيقة ولغة جسده الحاضرة التي تنساب مع كلماته ليشكلوا لذة حقيقية للمشاهد والمستمع.
إنه الطالب الأشهر صاحب الشخصية الكاريزمية اللذيذة التي يلتف حول مقعدها الطلاب ما إن يدق الجرس.. هو من يتمنى الجميع أن يحظى بنصف ما لديه من سحر وذكاء غير مألوف!.
وأنا هنا لا أعمم، وهناك دائماً استثناءات، ولكل قاعدة شواذ بلا شك.
السر في ذلك ما يسمى (بالذكاء الاجتماعي)، العلم الجديد الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية والمراكز المتخصصة في تطوير الموارد البشرية، وهو الذكاء الذي يختلف تماماً عن الذكاء العلمي والأكاديمي.
الذكاء الاجتماعي هو القدرة على التواصل مع الناس مع مختلف خلفياتهم ونفسياتهم ومشاربهم، والأشخاص الناجحون اجتماعياً ومن لديهم مهارات اجتماعية عالية يسخرون طاقاتهم العقلية والبدنية للتواصل مع الآخرين وقراءة أفكارهم، وهم القادرون أيضا على تكوين الصداقات والمحافظة عليها، كما يستطيع الذكي اجتماعياً أن يكون محاوراً متميزاً ومستمعاً جيداً، وهو من يدرك أن للإنسان أذنين وفماً واحداً، فيجب عليه أن يستمع ضعف ما يتحدث، وهو نفسه القادر على إظهار اهتمامه بالآخرين، فنحن بطبيعتنا البشرية نهتم بالآخرين حين يهتمون بنا.
إنَّ الذكاء الاجتماعي هو جواز سفرك اللامرئي واللاملموس إلى عقول وقلوب الناس حول العالم.
إنه الشهادة التي يمنحك إياها الناس لا المدرسة أو الجامعة..
إنه أسهمك الرابحة دائماً، وعلاماتك المرتفعة أبداً في التجمعات وليس على الورق..
إنَّ الثقة بالنفس واللباقة والدبلوماسية في استخدام المنطق والحيلة أحياناً هي من أهم مقومات ومعززات الذكاء الاجتماعي..
فاستبدال المفردات المباشرة والمملة والجافة بأخرى رشيقة وخفيفة، واللجوء إلى التلميح بدلاً من التصريح هو من الذكاء والحنكة التي قد توصلك إلى ما تطمح إليه بلا إصابات وتجريح عاطفي، فذلك يضمن لك عدداً أقل من الأعداء لنجاحك وتميزك.
وهو ما يضمن لك علاقات أفضل من الناس وحوارات أغنى وأكثر تشويقاً وبه تستطيع أن تلفت أنظار الجميع إليك وتجعل نجمك يبزغ في الحفلات والمناسبات الاجتماعية.
ذكر لنا الدبلوماسي الفذ الذي له تجربة طويلة ومثيرة بلا شك في التعامل مع الكلمات باحترافية وحذر الدكتور غازي القصيبي في كتابه (استراحة الخميس) بعض الأمثلة في استبدال الجمل بأخرى أجمل وأذكى.. حين قال:
لا تقل: وزنك زاد.
وقل: صحتك تحسنت.
ولا تقل: أنا غير موافق على رأيك.
وقل: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
ولا تقل: معلوماتك خطأ من أولها إلى آخرها.
وقل: استقيت معلوماتي من مصدر يختلف عن مصدرك.
ولا تقل: ما هذه الكرافتة القبيحة؟
وقل: أشهد بالله أن هذه الكرافتة فريدة من نوعها!.
وفي التعامل مع النساء..
لا تقل: هل أنت متزوجة؟
وقل: متى بدأت سعادة زواجك.
ولا تقل: عفواً! لا أتذكر اسمك!
وقل: من يراك ينسى حتى اسمه.
ولا تقل: لماذا لم تتزوجي حتى الآن؟
وقل: مشكلة الرجال الرئيسية ضعف النظر.
إنّ الذكاء الاجتماعي ذكاء قابل للنمو والتطوير، وإنه يعتمد في المقام الأول على الثقة بالنفس والقدرة على الاهتمام بالآخرين أو بالأحرى إظهار ذلك الاهتمام بطريقة أو بأخرى.
كم من العظماء الذين لم يكملوا تعليمهم الدراسي ولهم تأثير يفوق بمراحل متقدمة هؤلاء الحائزين على جوائز عالمية وشهادات عالية من جامعات مرموقة.
من منا لم يسمع بمقدمة البرامج الأولى في أمريكا والملقبة بملكة البرامج الحوارية (أوبرا ونفري) التي اسماها (توني بوزان) صاحب كتاب (قوة الذكاء الاجتماعي) بنجمة الذكاء الاجتماعي التي لها تأثير ساحر يسري في عروق الولايات المتحدة والعالم بأسره.. فيعرض برنامجها في 112 دولة ويزيد عدد متابعيه على 132 مليون شخص في أرجاء هذه المعمورة، وهي من يتقاضى راتباً سنوياً يبلغ 225 مليون دولار نظير أسلوبها المميز وما تتمتع به من حس الفكاهة وما تظهره من اهتمام بضيوفها؛ الأمر الذي يجعل ضيفها يعطيها كل ما لديه أو بالأحرى ما يريد أن يسمعه الجمهور.
وكذلك الحال مع (أدولف هتلر) المتحدث الذي لا يشق لها غبار، والذي سحر الناس وكسب قاعدة جماهيرية عريضة لا تغيب عنها الشمس بسبب شخصيته الفريدة وخطبه العظيمة وكلماته المتوقدة إلى جانب ذكائه العسكري الواضح.
يجب على كل شخص أن يحرص على تنمية ذكائه الاجتماعي الذي يؤمّن له حياة أفضل وفرصاً أقوى وصداقات متنوعة عن طريق القراءة الواسعة في هذا المجال والاطلاع على الدراسات التي تؤكد جدوى هذا العلم وتأثيره المباشر على حياة الفرد وصحته على المدى القريب والبعيد.
وإني أدعو المسؤولين في المدارس إلى الاهتمام بهذا الجانب الذي يهيئ الطالب للتعامل بسهولة وانسيابية مع الحياة الأخرى - أي خارج أسوار المدرسة - ويقلل من حدة الاحتكاك وجروحه المتوقعة في الجامعة أو سوق العمل.
إنَّ مهارات التواصل وتنميتها أضحت حاجة ملحة وليست مجرد زيادة أو ترفيه، وكما قيل (كل ما يمكن قوله يمكن قوله بوضوح)؛ لذا أقولها بثقة وإصرار: إنه الذكاء الاجتماعي مفتاح التقدم والنجاح القادم!