تُتخذ في بعض الأحيان إجراءات أو تصدر قرارات يصعب - إن لم يتعذر - تحليلها أو تعليلها، وقد يجد الفرد نفسه عاجزاً عن تسويغها أو تفسيرها، وهذا التعذر والعجز يكونان أكثر حضوراً إذا التزم الملاحظ بما ينبغي أن يلتزم به من افتراض سلامة القصد وحسن النية لدى من اتخذ إجراءً أو أصدر قراراً. |
ومن الإجراءات والقرارات ما يفاجئ الناس دون أن تسبقه دراسة معلنة أو حديث يتعلق به أو مناقشة في فحواه وجدواه وإيضاح لمسبباته ودواعيه.. ومن أمثلة ذلك إجازة التدريس في المدارس الخاصة بغير اللغة العربية حتى للناشئ الذي لم يتجاوز السادسة من عمره أو لم يبلغها، أي أن يأخذ هذا الناشئ كل أو جل معارفه بغير لغته، وهذا سبق لم يحققه أحد قبلنا - فيما أعلم - باستثناء الهند لوضعها الخاص بسبب تعدد اللغات فيها، ولست أدري أي رابطة تبقى لذلك الناشئ تشدُّه إلى أرومته وتراثه وثقافته طالما طالت هجرة تفكيره وتعبيره إلى مكان آخر، وقد يكون خالط أقواماً غير قومه، وقبل أن تسكن الرياح التي هبت مقاومة هذا الإجراء أو دافعة له تم اتخاذ إجراء آخر إذ أُصدر أو استُصدر قرار يصعب إن لم يتعذر تسويغه أو تفسيره أيضاً، وهو ما قامت به بعض الكليات الجامعية، وهي كلية الطب وكليات العلوم الطبية والصيدلة والهندسة من إصدار أو استصدار قرار يوجب أن يجتاز الطالب الحاصل على الثانوية العامة - مهما كان تفوقه - امتحانين تضعهما هذه الكليات، وإلى هنا يبدو الأمر معقولاً أو مقبولاً ولو من باب افتراض أن هناك متطلبات لدخول هذه الكليات لم تحققها الدراسة في المرحلة الثانوية وما قبلها، وإن كان هذا الافتراض يفتح الباب على استشكال أكثر خطورة وهو لماذا لم يفطن المسؤولون في مرحلة التعليم العام إلى هذا النقص؟ بل كيف لم يفطن المسؤولون في هذه الكليات إلى هذا النقص إلا في هذه المدة القريبة؟ على أن الشيء الذي لا يمكن فهمه أو قبوله هو أن ما أعطي للاختبارين المضافين هو الوزن الأكبر في تحديد مصير الطالب من حيث القبول في الجامعة أو ذوده عنه؛ إذ أعطيت لهذين الاختبارين 70% من مسوغات القبول في هذه الكليات، ولم يترك للشهادة الثانوية مهما كانت درجات حاملها سوى 30% فقط. وما يتعذر فهمه أو قبوله كذلك هو كيف خفي على مُصدر القرار أو مستصدريه أو على الجهتين معاً ما فيه من أخطاء فادحة، أولها: مساسها بمكانة التعليم في المملكة لإلقائها ظلاً كفيفاً من الشك يخل إن لم يهدم الثقة بها. |
الثاني: إسقاط أو إضعاف الدافع لدى الطالب في مرحلة التعليم العام لتحقيق التفوق في دراسته ما دام هذا التفوق لن يجديه كثيراً في تحقيق هدف يلوح له ويتطلع إليه. |
الثالث: أن هذا الإجراء يقوم حاجزاً مانعاً لمن تخرج من مدارسنا عن قبوله في أي جامعة في بلد من البلاد الأخرى ما دام يحمل وثيقة لا تراها البلد المصدرة لها كافية لقبوله في جامعاتها. |
مساس هذا القرار بمكانة التعليم العام في المملكة أمر شديد الوضوح في منطوقه ومفهومه، فالشهادة الثانوية وثيقة رسمية تصدرها جهة تتولى أخطر المسؤوليات، واختزال قيمة هذه الشهادة إلى ثلث مقدارها أو أقل لا يعني سوى تضعضع الثقة إن لم يكن انعدامها في الجهة المصدرة لها، وأما تأثيره على تحصيل الطالب في مرحلة تعليمه العام فأحسب أنه لا يحتاج إلى إيضاح؛ ذلك أن الدافع الرئيس لدى الطالب إلى الجد والمثابرة، الذي يدفع أهله على حمل أبنائهم منذ نعومة أظفارهم وعلى مدى 12 عاماً على ما لا يخفى من الجهد المتصل هو ذلك البارق الذي يلوح لهم بأن التفوق هو جواز الطالب لدخول الجامعة، فماذا سيبقى من هذا الدافع، أي من ذلك الوهج الذي هو وقود الجهد والمثابرة إذا علم أن جهده مهما علا لن يكون هو العامل في دخوله الجامعة؟ فهذا الإجراء هو الطريق الأقصر لإخماد الجذوة التي يجب أن تبقى متقدة داخل ذات كل طالب وطالبة والمحرك الذي يدفعهم لسهر الليل وكدّ النهار. |
أما أثر هذا الإجراء على سد الأبواب أمام طلابنا الذين يفدون أو يوفدون آلافاً إلى كل أو جل بلاد الله ومنها اليمن والسودان فهو معضلة أخرى لا تنحصر في حدود الوطن بل تتخطاها إلى كل بلد آخر؛ إذ كيف يقدم طالبنا الوسيلة الوحيدة لقبوله في الجامعات في الخارج وهي شهادته الثانوية مهما كان تفوقه فيها والبلاد التي أصدرتها لا تعطيها من الوزن ما يصل إلى ثلث قيمتها، أي ثلث ما تشترطه للقبول في جامعاتها. |
هل غابت كل هذه الاعتبارات عن الجهات التي أصدرت أو الجهات التي استدعت هذا القرار؟ وإذا كان لديها - أي لدى هذه الجهات - اعتبارات أخرى تسقط ما مرَّ من إشكال أو ترجح به أفلم يكن من الواجب أن يتفضل العارفون بهذه الاعتبارات بإعلام من يجهلها وهم الذين يعنيهم هذا الأمر من عامة أفراد المجتمع؛ لأنه متعلق بهم أو بفلذات أكبادهم لا أن يأتي هذا القرار وصفة طبية ليست جاهزة للتسويق فحسب بل ملزمة بالتطبيق؟.. |
من المرجح، إن لم يكن من المؤكد، أن الجهات التي أصدرت أو استصدرت هذا القرار تقدم بين يديها لتسويغه القول أن بعض المدارس الخاصة أو الحكومية تتجوّز في إعطاء الدرجات لطلابها فلم تَعُد الشهادة مقياساً يوثق به للحكم على مدى قدرة الطالب وتحصيله، ودوافع العاملين في هذه المدارس - بفرض حصول ذلك منهم - معروف، ولكن هل ما اتخذ من إجراء هو العلاج الناجح الشافي من ذلك الداء؟ أليس اتخاذ هذا الإجراء على أنه معالجة لهذه المشكلة هو إعلان ضاج عن العجز عن حسمها؟ أليس هذا الإجراء يأتي وكأنه تأصيل وإبقاء لهذا المرض طالما أعلنا ما يشبه العجز عن مقاومته؟.. أليس العلاج الحاسم لهذا الداء أمراً ميسوراً ومقدوراً عليه؟.. |
إذا وُجدت مدرسة أو مدارس يُشك في سلامة وصحة نتائجها فلماذا لا تُختار هذه المدارس أو بعضها ويخضع من حازوا على تفوق مشكوك في صحته للاختبار، فإذا تبين تباين بين التحصيل الذي أعطي إياه في اختباره في مدرسته وبين الاختبار الأخير وجب أن يُعلن عن هذه المدرسة أو المدارس، وأن يوقع على من قام بذلك ما يلائم من جزاء، ومن المؤكد أنه لو تم تنفيذ ذلك فلن تبقى مدرسة خاصة أو حكومية يجرؤ من فيها على إعطاء ضمائرهم إجازة تقصر أو تطول. |
إذا كان ما ذكر قد حدث أو من الجائز أن يحدث فهل هو أمر عام في كل المدارس ومؤثر في شهادات كل حملة الثانوية العامة؟ أليست الغالبية منهم قد حصلوا على درجاتهم عن جدارة؟ وعلى ذلك فهل من العدل أن يؤخذ البريء - وهم الأكثر - بجريرة المذنب، وهم الأقل؟.. ثم هذه الاختبارات المضافة التي ستحدد مصير الطالب ما هو محتواها؟ إذا كان الاختبار المضاف فيما درسه الطالب في مرحلته الثانوية فإن هذا الاختبار لا يعني سوى شيء واحد هو الشك في سلامة ما حصل عليه من درجات، وهنا لا يكون العلاج هو ما اتخذ من إجراء بل يجب أن يكون أبعد من ذلك بكثير، وأما إذا كان الاختبار فيما لم يدرسه الطالب وهو ما سمي باختبار القدرات فإن ذلك مما لا تحده حدود ولا يمكن لطالب أن يتنبأ بما يدور في خلد ممتحنه ليعد له؛ فيكون مصيره - والحالة كما هي - متعلقاً بمجهول. |
وبعد فإذا كان من الممكن أن يخطئ مجتهد في اجتهاده، وأن ما اتخذ هو من باب خطأ المجتهد فإن المأمول من المصدرين لذلك القرار أن يعيدوا النظر فيما أقدموا عليه؛ فالأسوأ من وقوع الخطأ الإصرار على الاستمرار فيه، وإنني على ثقة أنه لن يرضى أحد أن يكون ممن أشار إليهم شاعر بقوله: |
صُور العمى شتّى وأقبحُه إذا |
نظرت بغير عيونهن الهامُ |
|