طبعي أن تتباهى الأمم وتفاخر في بعدين مهمين، البعد الأول مادي: تبدو سماته ومظاهره فيما تتملكه تلك الأمة من عناصر القوة والسيطرة والتمكّن، والبعد الثاني معنوي: تبدو سماته ومظاهره فيما تتحلَّى به من سمات وشمائل وأخلاق، والمكانة الأسمى، والتقدير الأعلى، والقيمة الجلى، للأمم التي تتميّز في البعدين كليهما، وهذا يعني أنه قد تتميّز أمة في بعد، وتخفق في آخر، وقد تخفق في البعدين كليهما، وشواهد التأريخ الماضي والحاضر حبلى بالكثير من الشواهد والأمثلة.
ومن الشواهد العظيمة المشرقة المضيئة، التي جمعت البعدين المادي والمعنوي في دلالاتها الحضارية والثقافية، وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لجيش المسلمين في معركة مؤتة، تلك المعركة التي برهنت على سمو أخلاق المسلمين ونبل مواقفهم مع أعدائهم، فإليكم هذه الصفحة المضيئة من حضارة جمعت بين الدين والدنيا في تناغم وتكامل لم يشهد التأريخ لهما مثيلاً.
جرت أحداث معركة مؤتة في جمادى الأولى من العام الثامن للهجرة، بسبب قتل الحارث بن عمير الأزدي، رسول رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم، إلى ملك بصرى، حيث أوثق شرحبيل بن عمرو بن جبلة الغساني - والي البلقاء - رباط الحارث، فقدمه وضرب عنقه.
بعدما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الغدر (الرسل لا يقتلون ولا يغدر بهم) أمر بتجهيز جيش من ثلاثة آلاف مقاتل، وقد أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الجيش زيد بن حارثة، وقال: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة) وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم: (اغزوا بسم الله، في سبيل الله، من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء)
هذه سمات الحضارة الإسلامية، وهذه مسلماتها، هذه قيمها، وهذه أخلاقها، سمو في الأهداف والغايات، نبل في الممارسة والمعاملة، عدل وإنصاف، لا غدر، ولا غلو، لا لقتل الأطفال، ولا لقتل النساء، لا لقتل كبار السن، ولا المتعبدين المنعزلين في معابدهم، لا لقطع النخيل، لا لقطع الأشجار، لا لهدم المنازل والبيوت.
البدء دائماً بسم الله، والوجهة في سبيل الله، والغاية إعلاء كلمة الله، في وجه من يكفر بالله، ويسعى في خراب الحياة تدميراً وتعطيلاً، وسفكاً للدماء المعصومة، من أجل غايات دنيوية، ومكاسب مادية دنيئة.
إن الأحداث التي تعصف بالعالم اليوم، تدل على أن الحضارة الغربية المادية أضحت عمياء هائجة مجنونة، لأنها تستغل قوتها بصورة بشعة في التدمير والقتل والتخريب، بعد أن تجردت وتخلّت عن البعد القيمي والأخلاقي في تعاملها مع من يقع تحت سلطتها وجبروتها، فما يحدث في العراق، وفي أفغانستان، وفي فلسطين، وفي الصومال، وفي كل مكان تطاله أيديهم، وتطؤه أقدامهم، تجد الغدر والمغالاة، وقتل الأطفال، والاعتداء على النساء واغتصابهن وقتلهن، وكذا الحال مع كبار السن، والركع السجود في المساجد، قطعوا النخل والشجر، وأحرقوا الأخضر واليابس، وهدموا البيوت على رؤوس ساكنيها، قاصدين عامدين إلى الإمعان في القتل والتشريد، وبعد هذا كله، وهو فيض من غيض حقدهم وحماقاتهم وتخلفهم، ما زالت بعض الألسنة المستغربة تلهج تمجيداً وثناءً على حضارة الغرب، وتجلد ذاتها وبني جلدتها، والسبب أن الأمة لم ترضخ ولم توافق على ما يراد بها، من إذلال وتذويب وطمس للهوية والدين.