Al Jazirah NewsPaper Friday  24/10/2008 G Issue 13175
الجمعة 25 شوال 1429   العدد  13175

النسخة الأصلية

 

يعد مصطلح التناص من المصطلحات النقدية الحديثة، وقد ولد على يد جوليا كرستيفا 1969م، وقد استنبطته من الشكلانيين الروس ومن باختين تحديداً، ومن ثم احتضنته البنيوية الفرنسية وما بعدها.

من هنا كثرت تعريفات التناص فكل مدرسة نقدية كان لها تعريف أو أكثر كما أن للناقد الواحد تعريفات متعددة، فمنهم من يعرف التناص بأنه تشكيل نص جديد من نصوص سابقة أو معاصرة، ومنهم من قال إن التناص بأنه تشكيل نص جديد من نصوص سابقة أو معاصرة، ومنهم من قال إن التناص هو علاقة تفاعل بين النصوص، وهكذا..

إذاً مادام التناص هو تعالق نصوص فهذا يعني أنه لا يوجد نص على الإطلاق ينشأ منقطعاً عن بيئته اللغوية أو بيئته الطبيعية، ومن هنا يمكن لدارس الأدب متى كان موسوعي الثقافة أن يحيل كل نص إلى منبعه الأصلي، سواء في نفس الثقافة أو في الثقافات الإنسانية السابقة أو المعاصرة.

لم يعرف النقاد العرب التناص تحت هذا المصطلح، ولكنهم بلا شك عرفوا علاقة النصوص فيما بينها، ومن هنا ولدت لديهم مصطلحات عدة تؤكد التعالق النصي من مثل السرقات أو المعارضات أو النقائض أو حتى الأخذ والسلخ، وغيرها من هذه المصطلحات التي تبحث عن نسب النص كي تحدد هويته الأصلية، وتعيد لكل صاحب حق حقه.

قد يقع التناص في الثقافة الواحدة وقد يقع بين عدد من الثقافات، ومن هنا كانت سعة الاطلاع هي المعول في كشف التناص.

هنا أود أن أشير إلى أن التناص في الثقافة الواحدة قد يقع بين المدون منها (الفصيح) وبين الشفاهي (العامي) خاصة في الشعر، ومن هنا أردت أن أورد بعض ما وجدته من أبيات شعرية جسد الشعراء فيها قيمة إنسانية أو معنى من المعاني أو صورة شعرية وردت لديهم مع اختلاف ألسنتهم ومصادر ثقافتهم، وهذا قد يدل على القصدية أو قد يدل على توافق الظروف النفسية والتي جعلت كل من الشعراء يقع في المعاني أو الصور ذاتها.

يقول الشاعر العربي الجاهلي طرفة بن العبد البكري:

ولست بحلال التلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

فهنا طرفة ينفي عن نفسه الإقامة القصدية في التلاع (وهي الأماكن المنخفضة) لأنه يريد رفد الناس سواء كان ذلك الرفد شجاعة أو كرماً، فهو يثبت لنفسه الشجاعة والكرم معاً، وفي نفس المعنى نجد في الشعر النبطي ما يماثل ذلك وقد ورد دون نسبة إذ يقول الشاعر:

يا رازق اللي بيوته ما لفتهنه

عليهن الريع بينتن لواهيبه

النار كلت الحطب والنجر أكل بنه

والرزق عند الولي من حيث ياتيبه

فهنا مفردة (لفتهنه) تعادل التلاع والتي تمثل التخفي عن طارقي الليل أو حتى عن كل من يبحث عمن يساعده، وكل هذا ما نفاه الشاعران الفصيح والنبطي عن نفسيهما، إذ أثبت كل منهما البروز لفعل الجميل مع الناس. كذلك يقول الشاعر الجاهلي حاتم الطائي:

أماوي أن المال غاد ورائح

ويبقى من المال الأحاديث والذكر

فهذا مضرب المثل في الكرم يؤكد أن المال يفنى ولا يخلف إلا الذكر والسمعة الحسنة، ومن هنا فسوف ينفقه في الكرم لنيل المكانة بالذكر الحسن، وقد صدق الشاعر فقد فني ماله ولكن لم يفن ذكره لأنه قدم المال من أجل الذكر..

وقد عاصرت أحد حاتميي هذا العصر -ولست مبالغاً- فقد كان الشيخ محسن بن حنيف المريبض الرويس ولا يزال -أمد الله في عمره- مضرباً للمثل في الكرم قبل تدفق الثروة وبعدها، وقد أوردت مفردة قبل تدفق الثروة للتأكيد بأن الكرم سجية، نفسية وليس وجداً مادياً فقط.. يقول الشاعر محسن بن حنيف:

لو تحوش من الورق كثر الجرادي

الورق يفنى ولا تفنى الجميلة

فهذا الشاعر النبطي توافق في معناه مع الشاعر الفصيح في فكرة الكرم وبذل المال لكسب الذكر الطيب في قولهما (يبقى الذكر - لا تفنى الجميلة).

كذلك من هذا التناص بين العربي الفصيح والعامي النبطي ما وجدته بين الإمام الشافعي والشاعر سعد بن جدلان، إذ يقول الإمام الشافعي:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السوء تبدي المساويا

ويقول الأكلبي:

عيون الصد وعيون التجافي حول مهما أكرمت

تشوف المجتهد كسلان والبناي هدامي

فهنا يثبت الشاعران أن عين المحب لا ترى مساوى من تحب بينما عين الكاره لا ترى منك إلا السوء.

كذلك الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي يقول:

والشقي الشقي من كان مثلي

في حساسيتي ورقة نفسي

فالشاعر يعيد سبب شقائه لرقة نفسه وفرط إحساسه، وهو ما ورد على لسان الشاعر المعاصر عبدالعزيز الحسن في قصيدة يقول منها:

هاذي من الدنيا وهاذي من الناس

وهاذي تجيني من رهافة احساسي

أعتقد أن التناص المعنوي والنفسي واضح بين شعوري الشاعرين.

إذاً المعاني والأفكار والصور قد تتوارد وقد يتأثر الشاعر قصداً أو من غير قصد بشاعر آخر يشاركه الظروف ذاتها أو الحالة الشعورية ذاتها، مما يجعلنا نجد قاسماً مشتركاً بين النصوص سواء كانت في الثقافة الواحدة أو في الثقافات المختلفة، وهذا يجعلنا نؤمن أن الشاعر هو ذاكرة لكل ما يدور في فلكه سواء كان ذلك مكتوباً أو ملفوظاً أو ملحوظاً.

سالم الرويس

Rouis22@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد