Al Jazirah NewsPaper Friday  24/10/2008 G Issue 13175
الجمعة 25 شوال 1429   العدد  13175
أسباب ارتفاع أسعار الذهب العالمية
سليمان العثيم

عام 1944م اجتمع وزراء مالية 44 دولة في مصيف (بريتون وودز

(Bretton Woods) الأمريكي وقرروا ربط عملاتهم بالدولار الأمريكي،

وربط الدولار بالذهب بقيمة 35 دولارا لكل أوقية ذهب، ولقد أدى ذلك لازدهار التجارة العالمية، حيث إن تثبيت الدولار بالذهب كان يعني أن العملات المتداولة لها قيمة تقابلها من الذهب، ونتج عن ذلك طمأنينة العالم التعامل بالدولار لامكانية تحويله لذهب متى شاء، وهاجرت مليارات الدولارات لخارج أمريكا بفعل النفوذ الأمريكي، حتى فاضت عن حاجة العالم.

لقد أدى تجمع مليارات الدولارات خارج أمريكا لاحتمال حدوث أزمة خطيرة لو أصر أصحاب الدولارات على تقديمها للخزانة الأمريكية ليستبدل الذهب بها، ولقد أقلقت هذه الظاهرة البنوك المركزية التي كانت تمتلىء خزائنها بالدولارات، فأعلن البنك المركزي الألماني رفضه قبول أية دولارات اضافية مفضياً إلى أزمة أغلقت خلالها الأسواق المالية بكل من ألمانيا وهولندا وبلجيكا وسويسرا والنمسا في يوم 6 مايو 1971م، واستشعاراً بخطورة الموقف، سارعت ادارة الرئيس نيكسون إلى فك الارتباط بين الدولار والذهب في شهر أغسطس 1971م، وإلغاء اتفاقية (بريتون وودز).

وقد أدى إلغاء (بريتون وودز) إنهاء دور الذهب كبديل للعملة، وبالتالي كان على البنوك المركزية في العالم أن تخفض احتياطياتها من الذهب، ومن الزاوية الأخرى، فلقد ترجم هذا الحدث بأن البنوك المركزية لا يوجد بها ما يكفي من الذهب ليستبدل به العملات المتداولة، وعليه فيمكن الاستنتاج بأن الذهب سيبقى عزيزاً وذا قيمة مهمة حتى لو فقد دوره كبديل أو داعم للعملة، ولقد تواترت الأحداث بعد ذلك لتبرز مزايا أخرى لهذا المعدن النفيس فرضت إعادة النظر فيه وبالتالي ارتفاع سعره، ولعل هذا ما جعل البنوك المركزية الأوروبية تعقد مؤتمراً في 26 سبتمبر 1999م أعلنت فيه قرارها بابقاء الذهب عنصراً مهماً من احتياطياتها وأنها لن تبيع مخزونها من الذهب باستثناء الكميات التي رصدت للبيع سابقاً، ولقد آزرت الولايات المتحدة واليابان الموقف الأوروبي باتخاذ قرارات مماثلة أدت في مجموعها إلى خفض معروض الذهب العالمي وبالتالي ارتفاع أسعاره، وعليه فلقد كانت تلك القرارات بمثابة الداعم الأول لأسعار الذهب.

في الآونة الأخيرة شهدت أسعار الذهب ارتفاعاً ملحوظاً لم يسبق له مثيل، واتسم ذلك الارتفاع بالزيادة المطردة والسريعة، مع توقعات بأن يتجاوز سعر أوقية الذهب حاجز 1000 دولار، ففي ظل الأزمات الكثيرة التي يمر بها العالم الآن بداية من أزمة الرهن العقاري انتهاء بأزمة أسواق النقد، حافظ ذلك المعدن النفيس على قيمته وبريقه مما جعله وعاء أمن كسب ثقة الكثير من المستثمرين الذين خابت آمالهم في أوجه الاستثمار الأخرى.

هناك العديد من الأسباب وراء ظاهرة ارتفاع أسعار الذهب، والتي جاءت مجتمعة لتظهر قيمة المعدن الأصفر، لعل من أهمها ضعف الدولار الأمريكي وانخفاض قوته الشرائية بالمقارنة مع العملات الأخرى الرئيسية، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الذهب، وقد جاء هذا الضعف من قبل الدولار نتيجة تنامي الدين العام وعجز ميزان المدفوعات الأمريكي، أما تنامي الدين العام فيتم عندما يكون حجم إنفاق الحكومة أكثر من دخلها، وأما ميزان المدفوعات فيعني مقدار ما دفعته الدولة في الداخل مقارنة بما تستقبله من الخارج، ولأسباب كثيرة يرجح استمرار تصاعد الدين العام الأمريكي وعجز ميزان المدفوعات منها (المصاريف الخرافية التي نتجت عن حرب العراق، تلك الحرب التي وضعت الاقتصاد الأمريكي في موقف بالغ الخطورة)، مما رجح استمرار ضعف الدولار وبالتالي ارتفاع أسعار الذهب!.

من ضمن الأسباب الهامة أيضاً في ارتفاع أسعار الذهب، هي ظاهرة التضخم الاقتصادي التي لم ينج منها أحد وإن ظهرت بنسب عالية في الدول الفقيرة والنامية، والتضخم في لغة الاقتصاد يعني الارتفاع في مستوى العام للأسعار وانخفاض قيمة النقود، وقد ظهرت هذه الظاهرة وبشكل ملحوظ بعد الارتفاعات الكبيرة التي شهدتها أسواق النفط العالمي من بضع شهور مضت، والتي أدت بدورها إلى ارتفاع الوقود وبالتالي ارتفاع تكاليف الانتاج الصناعي وارتفاع أسعار السلع المصنعة، فقد شهدت أسعار جميع السلع ارتفاعاً كبيراً وصل إلى 4% في بعض السلع الأساسية، ولم يكن ارتفاع النفط هو السبب الأوحد لظاهرة التضخم، لكن شكلت أزمة الغذاء العالمية طرفاً آخر للتضخم بعدما تحولت بعض الدول إلى استخدام المحاصيل الزراعية كوقود حيوي بدلاً من الوقود العادي مما قلل المعروض من حجم الغذاء وبالتالي ارتفعت الأسعار، هذا بالإضافة لبعض الكوارث الطبيعية والأعاصير التي دمرت ساحات شاسعة من الأراضي المزروعة، ويعد من أسباب التضخم أيضاً ربط كثير من الدول عملتها المحلية بالدولار الأمريكي مما أدى إلى ضعف القوة الشرائية للعملة المحلية، ولا ننسى كذلك أن آلية النمو الاقتصادي في الدول النامية المصدرة للنفط كانت من ضمن العوامل التي أدت إلى زيادة معدلات التضخم، إذ يعتمد هذا النمو بدرجة رئيسية على الدخل المتحقق من النفط الخام، فكلما ارتفعت أسعار النفط وزاد هذا الدخل، توسعت الدولة في الانفاق وهو توسع يؤدي إلى آثار تضخمية مؤكدة، ويعد أيضاً توافر التمويل الاستهلاكي من قبل القطاع المصرفي أحد أسباب التضخم، إذ يملك ذلك القطاع فائضاً ملموساً من السيولة النقدية، مما يجعله يقدم على اقراض الجمهور وبشكل كبير فيستفحل أثر التضخم.

ولمواجهة تلك الظاهرة والحد منها قامت الحكومات بتقليل الفائدة التي تقدمها البنوك لدى المودعين للحد من الإنفاق، مما حدا بالمودعين عن الاستثمار في البنوك ووضع أموالهم بها نظراً لعدم جدواها وقلة العائد، فبحثوا عن مصدر آخر للاستثمار يضمن أموالهم وثرواتهم، فاتجهوا إلى الذهب حيث وجدوا فيه ضالتهم، مما رفع أسعار الذهب نظراً لشدة الطلب عليها.

ومن ناحية أخرى كان لأزمة أسواق البورصات العالمية وما تضمنته من انهيار لقيمة الأسهم والسندات أثر كبير في ارتفاع أسعار الذهب، تلك الأزمة التي وصفت بأنها أخطر صدمة مالية تعرضت لها الأسواق المالية منذ ثلاثينات القرن الماضي، ولعل جذور هذه الأزمة وأسبابها ترجع بداية إلى توجهات اقتصادية تقضي بمنح تسهيلات الاقراض في المجالات العقارية أدت بالتبعية إلى أزمة الرهن العقاري، والتي ظهرت تداعياتها مع بداية العام الحالي، فلم تهتم البنوك المانحة للقروض بالتأكد من أن الممتلكات العقارية التي يتم رهنها غير مغال فيها وأن يكون للمقترض سجل سابق من الحساب الاستداني الجيد ودخل كاف للقيام بمدفوعات الرهن دون وجود عراقيل مخيبة للآمال، مما خلق حالة من فقدان التوازن لدى البنوك المانحة نشأت بسبب عدم دفع المستفيدين لأقساط القروض في ظل ضعف المرهونات التي قدموها، وبعد أزمة الرهن العقاري جاءت أزمة أخرى كانت من تبعيات الرهن العقاري وهي أزمة البنوك وعدم قدرتها على سداد أموال الدائنين فقد شهدت الأسواق العالمية تراجعاً ملحوظاً بعد أن أعلن بنك (ليمان براذرز) رابع أكبر مصرف استثمار في الولايات المتحدة إفلاسه، محملاً بديون بلغت قيمتها 613 مليار دولار، وبعد أزمة (ليمان) جاءت أزمة شركة التأمين العالمية أمريكان انترناشيونال جروب (AIG) والتي كانت على مشارف الإفلاس، لولا أن تدخلت السلطات الأمريكية بخطة طوارىء قيمتها 85 مليار دولار لتجنب افلاسها، وقد جاءت هذه الخطة بعد يومين فقط من رفض السلطات الأمريكية انقاذ بنك ليمان براذرز مما اضطره لإشهار إفلاسه.

كل هذه الأزمات كانت السبب الرئيسي وراء الاضطرابات الحالية التي تشهدها أسواق المال العالمية والتي أدت إلى هبوط جميع البورصات العالمية، حيث سجلت الأسهم الأوروبية انخفاضاً حاداً وسط مخاوف المستثمرين في مختلف أنحاء العالم من ألا تكفي المساعي الحكومية في تخفيف حدة الأزمة، وفي آسيا تراجع مؤشر (نيكي) القياسي لأسهم الشركات اليابانية بنسبة 9.6% ليسجل أكبر خسارة له منذ انهيار أسواق الأسهم عام 1987م بينما انخفض مؤشر (توبكس) الأوسع نطاقاً بمعدل 7.1%، وفي الهند تدهور مؤشر بورصة بومباي بنسبة 7.9%، كما انهارت كل من بورصة بانكون بتايلاند ومانيلا بالفلبين، أما في أندونيسيا فقد بقيت عمليات التداول معلقة في بورصة جاكرتا بعد قرار السلطات عدم استئناف النشاط في وقت تتدهور البورصات الآسيوية الأخرى، ولم تكن البورصات الخليجية بأحسن حال من سابقتها، حيث شهدت جميع البورصات حالة من الهبوط الشديد، ففي الإمارات شهدت أسواق الأسهم أسوأ اسبوع تداولات في تاريخها منذ نشأتها عام 2000 حيث هبط المؤشر العام 19% بنسبة انخفاض في سوق دبي 22.5% وسوق أبوظبي 19%، مما جعل البعض يطالبون بتأسيس صندوق حكومي بـ15 مليار درهم لدعم السوق وتخفيف التداعيات السلبية للأزمة، وفي سوق الأسهم السعودي هبط المؤشر لأدنى مستوى له منذ 2004م، وفي محاولات لتدارك الأزمة وتداعياتها قامت سبعة بنوك مركزية عالمية من بينها البنك المركزي الأوروبي والاحتياطي الفيدرالي بتخفيض معدلات فائدتها الرئيسية نصف نقطة، كما أعلنت الصين تخفيض معدلات الفائدة على القروض لمدة سنة، ومن ناحية أخرى أعلنت الحكومة البريطانية عن خطة تصل إلى 500 مليار جنيه استرليني للحيلولة دون انهيار البنوك، وفي اليابان أعلن البنك المركزي قيامه بضخ 30 مليار يورو في القطاع المصرفي الأمر الذي شكّل أكبر تدخل عاجل له في السوق منذ بدء عمليات الضخ، وللأسف كل هذه المبادرات والمحاولات التي اتخذتها العديد من السياسات المالية العالمية لم تفلح في إنقاذ الأزمة مما هي عليه، فقد بات انهيار أسهم وسندات البورصات العالمية كالحصان الجامح الذي يصعب ترويضه.

من أبرز أسباب ارتفاع الذهب هو انخفاض الذهب الأسود (النفط)، والذي شهد ارتفاعات فاقت كل التوقعات في النصف الأول من العام الحالي، ولكن ومع السياسات النفطية لبعض الدول المصدرة، وخطط الاستهلاك من قبل الدول المستوردة انخفض النفط بشكل كبير، فعندما وصل سعره في شهر يوليو الماضي إلى 148 دولاراً للبرميل انخفض سعره بشكل مفاجىء إلى دون الـ80 دولاراً للبرميل، وكان هذا الانخفاض عاملاً كبيراً على تغيير أسعار الذهب حيث إن هناك علاقة عكسية بين النفط والذهب، فعند انخفاض أسعار النفط يتجه المضاربون في النفط للمضاربة بالمصكوكات الذهبية، مما يؤثر على أسعار الذهب ويؤدي إلى ارتفاعها.

ومن ناحية أخرى أرى أن من أهم أسباب ارتفاع أسعار الذهب هو قلة المعروض من المعدن وتخوف بعض الدول المنتجة من طرح انتاجها في الأسواق، مما أدى إلى نقص الكمية المعروضة، وزيادة الاسعار (نظرية العرض والطلب) والسبب الرئيسي في احجام الدول المنتجة عن زيادة المعروض وتخزينه، هو حالة عدم الاستقرار السياسي التي عمت العالم، مما جعل تلك الدول تأخذ حذرها مترقبة أي تقلبات أو أزمات سياسية متوقعة، متخذة من الذهب الملجأ الآمن لها كوعاء ادخاري مستقرة، أثبت على مر السنون مدى قوته في فترات الأزمات السياسية، ومن أخطر الأزمات الاقتصادية التي يمر بها العالم الآن تداعيات الحرب على العراق، تلك الحرب التي أدت إلى تداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي الذي يعاني من تراجع النمو، فقد ضرت الحرب بمصالح 75 دولة على الأقل تتعامل تجارياً مع العراق، وبموجب مذكرة التفاهم (النفط مقابل الغذاء) فإن تجارة العراق الخارجية كانت تبلغ قبل الحرب 54 مليار دولار. وفي ضوء ما تم الاتفاق عليه خلال السنوات القليلة الماضية بين العراق والعديد من الدول سواء اتفاقات اقتصادية أو للتعاون التجاري والنفطي، وخاصة فرنسا وروسيا والصين، فإن قيام الحرب أضر بمصالح تلك الدول وبشكل مباشر، ناهيك عن التقلبات الاقتصادية التي شهدتها الدول العربية نتيجة هذا الغزو الأمريكي يأتي على رأسها مصر وسورية والأردن، حيث كانت تربط تلك الدول بالعراق مصالح اقتصادية مشتركة، هذا بجانب العمالة الوافدة التي كانت تعمل داخل الأراضي العراقية، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية بمنأى عن آثار تلك الحرب، فقد دفع الاقتصاد الأمريكي ضريبة الحرب على العراق وبشكل باهظ، حيث تجاوزت تكاليف تلك الحرب ال3 تريليونات دولار أمريكي نظراً لطول أمدها الذي زاد بالتبعية مصاريف الانفاق العسكري والتي مثلت في مصاريف الجندي الأمريكي مرتفعة الثمن واستهلاك عدد كبير من الأسلحة والذخيرة، وقد أدت تلك الحرب وبشكل مباشر إلى ظهور عجز في الميزانية الأمريكية كان من نتائجه تباطؤ أداء الاقتصاد في جميع نواحيه.

ولم تكن حرب العراق فقط هي السبب الرئيسي في تلك المخاوف العالمية ولكن هناك المشكلة الايرانية الأمريكية، والتي تفاقمت بعدما وضعت الإدارة الأمريكية قيادة بوش إيران على خارطتها العسكرية، ولعل التصريحات الرنانة التي تصدر من الحكومية الإيرانية وبالأخص من الرئيس نجاد قد أثارت غضب البيت الأبيض مما جعله يلوح للعالم بأكمله أنه من المحتمل أن يكون هناك تحرك عسكري تجاه ايران لتواجه نفس المصير الذي واجهته العراق، هذا بالإضافة إلى مشكلة دارفور، والصراع العربي الإسرائيلي والهجوم الإسرائيلي على لبنان بالإضافة إلى ما تشهده الأوضاع المتردية داخل الأراضي الفلسطينية في ظل الانتهاكات الإسرائيلية الغاشمة.

جميع تلك العوامل أدت في النهاية إلى حالة خوف وعدم اتزان، مما أدى إلى فقدان الكثيرين الثقة في عملاتهم الوطنية، ووسائل الادخار الأخرى سواء الاستثمار داخل البنوك أو في أسواق المال، وظهر الذهب في الآفاق معلناً عن نفسه، بعدما أثبت للجميع أنه الحصن الحصين وانه بمنأى عن كل هذه الأحداث المؤسفة التي عصفت بشتى نواحي الاستثمار على مستوى العالم، ومن هذا المنطلق اتجهت بعض الدول إلى الرجوع إلى الذهب مرة أخرى تخزين الذهب الخام وخصوصاً (الدول الآسيوية) واتخاذه كمستودع للقيمة والثروة.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد