بدلاً من أن نطرح على القارئ الكريم ما تحفل به هذه الأيام من أزمة اقتصادية طاب خاطره من الحديث عنها فيما يبدو بسبب جفاف مصطلحاتها، وصعوبة معرفة مسالكها، والجهل بكثير من دهاليزها التي لا يدرك خفاياها سوى خبير، وان ظهر للبعض انه فيها ليس له نظير، فأخذ يبرق ويرعد، ويقرِّب ويُبعد، وما عساه، ونحن أن نفعل فنتائجها بيد رب العباد، أولاً، ثم بيد ثلة من السياسيين والاقتصاديين ورجال الأعمال الذين ليس لنا من أمرهم سوى سماع الأخبار، والتجلد والاصطبار حتى يجعل الله من كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية لاقتصاد عالمي ضاقت به السبل، وتقاذفته الأمواج، فمال عن الاستقامة إلى الاعوجاج، فعسى أن تلين عريكته، ويعود لسابق عهده، مستقيماً كما كان، ومن ثم يعالج ما أصابه من جروح وقروح، فتندمل، وينطلق في مسيرته بأسرع مما كان والله على كل شيء قدير. |
دعونا من ذلك كله فقد ملنا ومللناه، ولاسيما أنه قد وافق موسم انتخابات امريكية تحمل سابقة ليس لها مثيل في تاريخ تلك البلاد البعيدة في أرضها، القريبة من العالم في تأثيرها، ففي انتخاباتهم إن فاز مكين ستكون نائبته امرأة للمرة الأولى في تاريخ تلك البلاد، عليها مسحة من الجمال وجاذبية نصوف قد بلغت أشدها وجاوزت الأربعين بقليل، حفظها الله لمن يرجوها، وإن فاز في انتخاباتهم أوباما فله السبق في أمر لم يسبقه إليه غيره لأمرين: فوالده مسلم اسمه حسين، وهو من ذوي البشرة السمراء، زادته وسامة مع شبابه النضر ونشاطه الكثير. هذه الأمور ليس لنا بها وارد أو صادر، ولذا فمن الأولى أن نحول رحالنا إلى الاندلس وتاريخها لنروح عن أنفسنا ما أشغلنا به الإعلام من تحاليل وتهاليل حول الاقتصاد والانتخابات. |
فقد ذكر المقرّي في نفح الطيب أن المرابطين وأحياناً يسمون بالملثمين بعد أن زال سلطانهم وخبا نجمهم، وتفرقت بلادهم، كان من جملة هؤلاء أمير يقال له أبو الحسن بن نزار، له مكانة عند بعض أهالي وادي آش إحدى مدن الأندلس، لكن أهل ذلك الوادي رأوا غير ما رأى فخاطبوا فيه ملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش، حاسدين عليه ما كان يروم، وكعادة الحسّاد في كل مكان وزمان يزيدون وينقصون ويهولون ويخوفون ويفسرون كل لفظ ليناسب ما يرومون فقال لملك شرق الاندلس بن مردنيش: إن ابا الحسن بن نزار قد قال أبياتاً من الشعر يشتم منها رائحة طموح يتجاوز حدوده ومطمع إلى ما بين يديك وأرسلوا له قصيدة قالها، ومنها: |
لكنني ربما بادرت منتهزاً |
لفرصة مرقت كاللمح بالبصر |
في أم رأسي ما يعيا الزمان به |
شرحاً فسل بعدها الأيام عن خبري |
فعندما وقف ابن مردنيش على هذا القول وجّه إلى وادي آش من حمله إليه مقيدا، فقدم إلى مرسيه بشرق الأندلس أسيراً بعدما كان أميراً، فلما وقعت عين ابن مردن عليه قال له: أمكن الله منك يا فاجر، فقال: أنت - أعزك الله - أولى بقول الخير من قول الشر، ومن أمكنه الله القدرة على الفعل فما يليق به أن يستقذر بالقول، فاستحيا منه وأمر به فسجن، فمكث فيه مدة من الزمن ولم يزل في سجنه إلى ان تحيل في جارية تحسن الغناء فوضع موشحات وجعل يلقيها على الجارية حتى حفظتها، وأحكمت الغناء بها، وقال لها: إذا ما دعاك إلى الغناء وظفرت به في أطرب ساعة فغنيها. واتفق أن ظفرت بما أوصاها به، وأحسنت غناء الموشحة، فطرب ابن مردنيش لسماع المديح وأعجبه مقاصد القائل، فسألها لمن هي، فقالت: لمولاي عبدك ابن نزار، فدخلت عليه الرأفة والأريحية بما أصابه، فأمر في الحين بحلّ قيده، واستدعى به إلى موضعه ذلك في ذلك الوقت، فلما دخل خلع عليه وأدناه، وقال له: يا أبا الحسن، قد أمرنا لك بالسراح على رغم الحسود، فارجع إلى بلدك مباحاً لك أن تطلب الملك بها وبغيرها إن قدرت، فأنت أهل لأن تملك جميع الأندلس، لا وادي آش فقط. فقال: لا والله، بل ألتزم طاعتك، والإقرار بأنك بعثتني من قبر رماني فيه حسادي والوشاة، وبعد أن آنسه قال له ابن مردنيش، يا ابن نزار الآن أريد أن أسألك عن شيء، قال: وما هو يا سيدي، قال: عما في أم رأسك حين قلت: |
في أمِّ رأسي ما يعيا الزمان به |
شرحاً فسل بعدها الأيام عن خبري |
فقال له: يا سيدي لا تسمع إلى غرور نفس ألقته على لسان رجل لعبت بأفكاره الأماني وغطت على عقله الآمال، والله لقد بقيت في داري أروم الاجتماع بجارية قدر سنة، فما قدرت على ذلك، ومنعتني منها زوجتي، فكيف أطلب ما دونه قطع الرؤوس ونهب النفوس؟ فضحك ابن مردنيش وجدد له الإحسان، وجهزه إلى بلده وأمر عماله أن يشاركوه في التدبير، ويستأذنونه في الصغير والكبير، فعظم سعده. |
وأقول كم منا لم يستطع الزواج من الثانية، منعه من ذلك خوفه من زوجته رغم ان الأزمة الاقتصادية ربما تدفع ببعض إلى التثنية هروباً من آلام تهاوي الأسهم. |
|