كثيرون هم من رجال الغرب الذين اهتموا بالإسلام، ودراسة الكتب العلمية الإسلامية، في القرنين الماضيين، فصاروا بين منصفين يقولون الحقيقة التي بهرتهم به حضارة الإسلام، وقيم تعاليمه، وهم قلة.. لغرض في النفوس، أو رغبة في التنقيص من مكانته، ودور تعاليمه في الحياة البشرية والحضارات التي برزت في البلاد التي نفوذ الإسلام فيها.
وفريق كانوا عارفين بفضله وقيمه، ولكنهم أرادوا خدمة حكوماتهم المتطلعة للاستعمار والاستثمار، في تصيد العيوب وتلمس الثغرات التي ينفذون منها.. لصالح حكومات الغرب في نظرته الاستعمارية.
وهؤلاء: سار بعضهم على منهج قيادات أسلافهم في الحروب الصليبية..
وكان محمد أسد وهذا هو اسمه بعدما أسلم، مراسلا صحفيا، وهي مهنة المتاعب، مكلف بأن يزور بلاد الشرق، وديار المسلمين، لينقل الصورة كاملة للقراء الغربيين، وقد منحه الله قدرة على جذب القارئ في وصفه ومشاعره في نقله الصورة الواقعية لديار الشرق الإسلامي أرضا وطبيعة ومكانا وعادات بأسلوب أدبي يستهوي القارئ..
ولما أظهر كتابه الأول: الإسلام على مفترق الطرق صار بداية في تعريف القراء بهذه الشخصية الفذة، فكان كتابه الثاني: الطريق إلى مكة الذي يقع في أكثر من (400) صفحة بالقطع الكبير، وترجم للغات العالمية، ومنها العربية بترجمة عفيف البعلبكي، وصدر عن دار العلم للملايين في بيروت في طبعته الأولى عام 1956م، فانتشر الكتاب في البلاد العربية، وقبلها قد حاز مكانة كبيرة في بلاد الغرب، حيث نشر بالإنجليزية في نيويورك ولندن، وبالألمانية بترجمة المؤلف في فرانكفورت وبالهولندية في أمستردام، وبالسويدية في استوكهولم، ثم بالفرنسية والأوردية.
وكانت الطبعة العربية بمقدمة صغيرة منه، إلى خادم الحرمين الشريفين، الملك سعود بن عبدالعزيز، قائلا: أعزه الله أهدي هذا الكتاب، تقديرا للآمال العظيمة التي يؤملها المسلمون من جلالته، وذكرى للأيام السعيدة التي أمضيتها في رعاية المغفور له والده المعظم (محمد أسد)، وقد أعجب به الدكتور عبدالوهاب عزام الذي نقل شعوره بمقدمة، جاء فيها: وأشهد لقد شهدته وأنا في باكستان في مجالس كثيرة دائم الأهبة للتحدث عن الإسلام، والدفاع عنه، انتهازا للفرص ليبين حكمة من حكمه أو فضيلة من فضائله أو يرد مسلما جاهلا بدينه إلى الصواب، أو يهدي آخر ضالا إلى سواء الصراط أو يدعو المسلمين إلى الاستمساك بدينهم، وجمع كلمتهم وقلوبهم، وأيديهم إلى العمل الصالح، الذي يعود بهم إلى مجدهم الأول (ص12).
وفي حكاية قصة التأليف يقول: لم أفكر مطلقا من قبل في كتابة هذه القصة، لأنه لم يخطر لي، أن حياتي يمكن أن تكون موضع اهتمام أحد سواي، بيد أنني قصدت باريس، ومن بعدها نيويورك، في مطلع عام 1952م، بعد غياب (25) عاما عن الغرب أجبرت أن ابدل من نظرتي تلك. لأن المنصب الذي شغلته كوزير مفوض لباكستان لدى الأمم المتحدة، جعلني بطبيعة الحال محط الأنظار، وأثار الكثير من الفضول بين أصدقائي ومعارفي الأوروبيين والأمريكيين خاصة عندما أظهر نشاطي في الأمم المتحدة، أنني لم أكن موظفا فحسب، بل رجلا منسجما تمام الانسجام: عاطفيا وعقليا، مع الأهداف والغايات السياسية والثقافية، للعالم الإسلامي بوجه عام، فيستولي عليهم الدهش إلى حد ما.
وبدأ الناس يلحفون علي، تدريجيا بالسؤال عن خبراتي الماضية، فعرفوا أنني في مطلع حياتي، اتخذت مهنة مراسل للصحف الأوروبية، وأنني بعد سنوات عدة قضيتها في التجوال بين أقطار الشرق الأوسط، أصبحت مسلما في عام (1926م) وأنا في أفغانستان كذلك عرفوا أنني بعد اعتناقي للإسلام، عشت قرابة ست سنوات في جزيرة العرب، ونعمت بصداقة الملك ابن سعود، ثم ذهبت للهند، فاجتمعت بالشاعر الفيلسوف الإسلامي العظيم، والأب الروحي لفكرة باكستان: محمد إقبال، لقد كان هو الذي سرعان ما أقنعني بإلغاء برنامجي في السفر لتركستان الشرقية والصين، وإندونيسيا، وبالبقاء بالهند، كي أسهم في إيضاح المقدمات العقلية للدولة الإسلامية العتيدة، التي لم تكن ذلك الوقت أكثر من حلم يراود مخيلة محمد إقبال. وعندما أنشئت باكستان عام 1947م، دعمتني حكومتها، إلى تنظيم دائرة إحياء الإسلام، وبعد عامين في هذا النشاط المغري إلى أبعد الحدود، انتقلت إلى وزارة الخارجية الباكستانية وعينت رئيسا لقسم الشرق الأوسط..
فانسجم في هذا الاتجاه بكل عواطفه، وتكيفه الخارجي، وهو الأوروبي، مع البيئة الإسلامية التي اتفق أن عاش فيها، حيث بدا غريبا لدى أصدقائه الغربيين، إذ كان بوسعه أن يستبدل بتراثه الثقافي الغربي، التراث الإسلامي، وكيف استطاع قبول ايديولوجية دينية واجتماعية، كانت في اعتقادهم المطلق أحط من جميع المفاهيم الأوروبية حيث ساءه فرض أصدقائه الغربيين ذلك والتسليم به، بمثل تلك السهولة ثم يقول:
وهل أزعج أحدهم نفسه حقا بدراسة الإسلام، دراسة واعية مباشرة أم هل كانت آراؤهم تقوم فقط على الأفكار المشوهة التي تحدرت إليهم من الأجيال السابقة؟ وهل تكوين طريق الأفكار المشوهة التي تحدرت إليهم من الأجيال السابقة: يونانية ورومانية قديمة قسمت العالم إلى يونانيين ورومانيين من جهة وبرابرة من جهة أخرى، لا تزال مكينة في الفكر الغربي ونقد الغربيين في فكرهم الجامد ضد الإسلام، وقيمه وتعاليمه، ودعاهم إلى النظرة الحانية المتجردة، ليدركوا عظمة الإسلام في كافة شؤون الحياة وتنظيمها (ينظر كتابه هذا بتوسع من ص15 - 25).
وقد لمح إلى أن قصة حياته هذه التي رصدها، تعني السنين التي سبقت مغادرته جزيرة العرب إلى الهند، وقضاها بين ليبيا وصحاريها، وقمم بامير المكسوة بالثلوج، وبين البسفور وبحر العرب، ويقول: أرجو أن يذكر القارئ هذا دائما في مروره بأثناء رحلتي الأخيرة، من داخلية الجزيرة العربية إلى مكة في صيف عام 1932م، لان حياتها ظهرت لي أوضح ما يكون في إبان تلك الأيام (23) يوما في هذه الرحلة، وهي قليلة في العمر الزمني، لكنها كثيرة في التحول الفكري والعقدي.. ثم نراه يتحدث عن الملك عبدالعزيز بن سعود الأول، وصفاته وأخلاقه وكرمه وفراسته في أول لقاء له في مكة بأوائل عام 1927م (الموافق 1346هـ) بعد أشهر قليلة من اعتناقه الإسلام، حيث قال: وكانت وفاة زوجتي المفاجئة التي جاءت معي للحج، في أول رحلة إلى مكة، قد أحزنني جدا، وجعلني أؤثر العزلة والابتعاد عن الناس، وكنت أحاول أن أجد مخرجا يائسا، من ذلك الغم القاتل، وكنت أقضي وقتي في حجرتي وحيدا، حتى أنني أحجمت طيلة أسابيع عديدة، عن زيارة الملك، وقد أخبرني الحاج آغوس من إندونيسيا، بأن الملك قد وضع اسمي على لائحة ضيوفه، حيث بان لي أنه افتقدني بسبب احتجابي، ثم ذكر مقابلات مع الأمير فيصل، ووصف مجالس الملك وإعجابه بسعة أفقه، وتواضعه، وقد يسر له رحلة صحراوية على الجمال.. أما زوجته (أليس) فدفنت في مكة المكرمة.. (بالتفاصيل ينظر من كتابه هذا ص33 - 65).
وفي موقف آخر يصف المدينة المنورة وتأهله فيها، وعلاقته بالشيخ عبدالله بن (سلمان) بن بليهد الذي كان رئيسا للقضاة في مكة عام 1345هـ، ثم طلب الإعفاء حتى مات عام 1359هـ، ليتفرغ للعلم والعبادة، وقد أعجب محمد أسد بسعة أفقه فكان حديثهما في مكتبة المدينة في هموم المسلمين، وما يرجوان لهم، وفي الحلقة القادمة طرف من ذلك (للبحث صلة).
من أحوال الزهاد:
جاء في ترجمة داود الطائي عند أبي نعيم الأصبهاني في كتابه حلية الأولياء، نماذج كثيرة من زهده، فمن ذلك قوله بالسند إلى أبي سليمان يقول: أقام داود الطائي، أربعا وستين سنة أعزب، فقيل له: كيف صبرت عن النساء؟ قال: قاسيت شهوتهن، عند إدراكي سنة، ثم ذهبت شهوتهن من قلبي قال أبو سليمان: فنرى أنه من صبر عنهن عند إدراكه سنة، لم يعرفهن لا جلالا، ولا حراما إنه يُكفى مؤنتهن.
وقد روى بسنده، عن حماد بن أبي حنيفة، قال: قالت مولاة لداود الطائي يا داود لو طبخت لك دسما، قال: فافعلي، قال: فطبخت له دسما من شحم، ثم جاءته به، فقال: ما فعل أيتام بني فلان؟ قالت: على حلهم، قال: اذهبي به إليهم. فقالت: فديتك، إنما تأكل هذا الخبز بالماء بالمطهّرة. قال: إذا أكلت هذا، كان في الحش، وإذا أكله هؤلاء الأيتام كان عند الله مذخورا.
وقالت له أمه، وكانت امرأة موسرة: لو اشتهيت شيئا اتخذته لك؟ فقال: أجيدي يا أماه، فإني أريد أن أدعو إخوانا لي، قال: فاتخذت وأجادت، فقعد على الباب لا يمر سائل إلا أدخله، فقدم إليهم ما صنعت أمه، فقالت له: لو أكلت؟ قال: فمن أكله غيري؟ قيل: ثم جد واجتهد حين ماتت أمه، فقسم كل شيء تركته وكانت ذات يسار. حتى لصق بالأرض.
وروى بالسند، عن جنيد، وكان يتعاطى الطب، قال: أتيت داود الطائي، فإذا قرحة قد خرجت على لسانه قال: فبططتها، ثم أخرجت قليل دواء، فوضعته في خرقة فقلت: إذا كان الليل فضعه عليها. فقال: يا جنيد ارفع ذلك اللبد، فرفعه فإذا تحته دينار، فقال: خذه، قال جنيد: فقلت يا أبا سليمان، ليس هذا ثمن هذا، إنما ثمن عملي دانق فقط، ثم وضعت الدواء في كوة، وخرجت ولم آخذ الدينار، ثم عدت بعد يومين فإذا الدواء على حاله، قلت: يا أبا سليمان سبحان الله لم لم تعالج بهذا الدواء؟ قال: إن أنت لم تأخذ الدينار، لم أمسه.
وكان عطاء بن مسلم يقول: عاش داود الطائي، عشرين سنة بثلاثمائة درهم. ينفقها على نفسه، فأتاه ابن أخيه فقال: يا عم تكره التجارة؟ قال: لا قال أعطني شيئا أتجر به، فأعطاه ستين درهما. فمكث شهرا ثم جاءه بعشرين ومائة درهم. فقال: هذا ربحها: فقال: أنت تربح كل شهر للدرهم درهما، ينبغي أن يكون عندك بيت مال أردت أن تخدعني، فرمى بها ثم قال: رد علي رأس مالي.
وعندما شيع الناس جنازته، فلما دفن قام ابن السماك فقال: يا داود كنت تسهر ليلك والناس نائمون، فقال القوم جميعا، صدقت، وكنت تربح إذا الناس يخسرون، فقالوا: صدقت، وكنت تسلم إذا الناس يخوضون، فقالوا: صدقت.. حتى عدد فضائله كلها، فلما فرغ قام النهشلي فحمد الله، ثم قال: يارب إن الناس قد قالوا ما عندهم، مبلغ ما علموا اللهم فاغفر له برحمتك، ولا تكله إلى عمله (7: 335 - 338).