مما لا شك فيه أن الشعب العراقي دفع ثمناً باهظاً وكبيراً جداً من أجل إحداث التغيير الذي بدأت مظاهره تتجسد، والثمن الذي دفعه العراقيون والذي سيستمرون في دفعه إذا ما قورن وقيس بما أقدمت عليه شعوب أخرى سعت إلى تغيير نظمها السياسية والاجتماعية التي كانت تعيش واقعاً سياسياً واجتماعياً مقارباً لما كان عليه العراق؛ فإن تلك الشعوب كانت أقل بذلاً، ولا تقاس تضحياتها بتضحيات الشعب العراقي التي فُرضت عليه فرضاً؛ إذ لم يكن العراقيون راغبين في أن يُفرض عليهم تغيير هم غير مستعدين له، كما أنهم لم يكونوا راغبين في أن يجعل الغرباء وطنهم (أرضه وأهله) وقوداً وأدوات لحروب وتصفية حسابات كانت تتم من أجل مصالح جهات إقليمية وأجنبية.
أما بالنسبة للدول الأخرى التي كانت تعيش أوضاعاً سياسية واجتماعية مقاربة لما كان عليه العراق في النظام السابق، فإنها - أي تلك الشعوب، ونعني بها شعوب أوروبا الشرقية - كانت راغبة في التغيير وتعمل من أجله وساعية إليه. والذي قلّص تضحيات تلك الشعوب، بل ألغاها تماماً، باستثناء ما حصل في يوغسلافيا السابقة، هو أن أوطان تلك الشعوب لم تكن سوح صراع إقليمي أو دولي لانهيار الطرف الآخر؛ فالأنظمة الشمولية انهارت بمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالتالي جرت عملية التغيير دون صدام حقيقي، ولم يكن التغيير مقنعاً في بعض الدول فبعد انقضاء فترة الانبهار عادت بعض من الشعوب إلى نفس النهج السياسي المقارب لما كانت عليه في أنظمتها السابقة، وإن تم عبر صناديق الانتخاب وتغير مسمى الأحزاب الشمولية السابقة، بإضافة مسحة أو صفة الديمقراطية. فالحزب الشيوعي في ذلك البلد الأوروبي الشرقي أُضيف إلى اسمه الجديد صفة الديمقراطية فأصبح يسمى مثلاً بحزب التجديد الديمقراطي، أو الطريق الجديد الديمقراطي، وهكذا عادت كثير من شعوب أوروبا الشرقية إلى الأنظمة اليسارية رغم كل المساندة وإغراءات الأطلسي وواشنطن للأنظمة اليمينية.. ولكن الشيء الذي تغير فعلاً هو أن كل هذا يتم وفق رغبة وخيارات الشعوب وعبر صناديق الاقتراع، وهذا بحد ذاته تطور ونجاح كبير لتلك الشعوب التي لم تقدم ثمناً كالذي قدمه الشعب العراقي، الذي لم يحصد مكاسب بما يوازي التضحيات.. فالشيء الذي حققه العراقيون حتى الآن هو اكتساب بدايات التغيير الديمقراطي ولا نقول كما يدعي البعض بالتمتع بالحرية ومصاحباتها من عدل ومساواة، إلا أننا نقر بأن العراقيين بدؤوا يرتقون سلم الديمقراطية من خلال ممارسة الانتخابات بعد أن استغرقوا خمس سنوات حتى يتعلموا ثقافة الانتخابات، أما ماذا حققت لهم تلك الانتخابات؟ وهل فهموا وأجادوا لعبة الانتخابات بعد أن تشرّبوا ثقافة صناديق الانتخابات؟.. فهذا ما نواصل الحديث عنه غداً.
jaser@al-jazirah.com.sa