Al Jazirah NewsPaper Wednesday  22/10/2008 G Issue 13173
الاربعاء 23 شوال 1429   العدد  13173
التكفير: والنظرة السطحية
عبد الله بن محمد السعوي

إن ظاهرة تنامي المد التكفيري الذي يعيق النهضة من النهوض، والتصاعد الرقمي الملموس للكم المنفعل ببنيته الايديولوجية - هذه البنية التي يعييها العثور على ما يمنطقها من الأبعاد الدلالية لنصوص الوحيين ويتعذر عليها مهما استماتت في الاشتغال على الإكراهات المعرفية للنص إيجاد المبررات النصية لتأكيد مبدئها ورسم معالمه الكبرى - هذه الظاهرة لم تتشكل اعتباطا، ولم تنجم كصدفة طارئة، وليست معلولة فاقدة لعلتها؛ مفردة التكفير التي استعملت بكثافة تداولية لافتة في البرهة الزمنية الأخيرة ليست فلتة عارضة، ولم تنشأ من فراغ بل لها جذورها التاريخية الضاربة في القدم، وثمة منظومة سببية متكاملة، وحزمة من المفردات التحريضية، تقف وراءها وتمهد مشرعنة لتمظهراتها التي أشاعت جوا من التناحر الانتحاري، وإذا كان بمقدورنا سبر أغوار هذه المنظومة والنفاذ إلى أعماقها اللجية، فإننا نكون بذلك قد دلفنا في الخطوة الأولى في سبيل الوصول إلى الترياق الذي يحررالنسيج الاجتماعي من هذا الوباء الأيديولوجي - الذي ينطوي في بنيته الداخلية على عوامل فنائه - والداء وخصوصا في حالة تفاقمه يتعذر محاصرة معطياته الوبائية الا بعد القيام بتشخيصه، وتشخيصه لايتم الا بمعرفة عوامله ووعي عوارضه، ومكوناته الفعلية، ومن ثم إجراء العملية الاستئصالية العاجلة له، وحقيقة الأمر أن لهذا الفكر التكفيري محرضات متباينة منها ماهو ديني ومنها ماهو سيكولوجي ومنها ماهو اجتماعي ومنها ماهو اقتصادي أو سياسي، وقد تتداخل هذه العوامل لتسهم في إفراز شخصيات تكفيرية صدامية متناهية الوحشية، ولايصح موضوعيا عزو هذه الظاهرة السوداوية إلى علة بعينها لأن في ذلك ضربا من الاختزال ومجافاة للحقيقة المتعينة على أرض الواقع الفعلي، وفي هذا المقال سيجري التركيز على عامل يتيم يتمثل في تلك النظرة السطحية التي تمثل إحدى سمات هذا الفكر المتخبط الذي طال ليله الفكري الحالك!.إن التعاطي مع الدين على نحو مسطح وعدم العمق المفاهيمي يعتبر من أبرز عوامل نمو وذيوع ظاهرة التكفير، فالسطحية المرتكزة على الثنائيات الحدية الضدية من السمات الملازمة لفكر التكفير لا تنفك عنه بحال من الاحوال فهو فكر تطغى عليه الجزئية والسطحية والشخصانية، ولاحظ له ولانصيب من الشمولية والجذرية والموضوعية، كماهو الوضع في فرقة الخوارج التي رزحت تحت وطأة التكفير ووقعت في فخه فهي تكفر- من فرط سطحيتها- مرتكب الكبيرة، إنه كلما أوغل الإنسان في متاهات الجهل وكلما تضاعف هزال بنيانه المعرفي كلما تضاعف - في المقابل - جمودا وتحجرا وتسطحا وتبرما بالمخالف له فيما يتبناه من رؤى، وخصوصا عندما يكون جهله مركبا بمعنى أنه جاهل ويجهل أنه جاهل، فهو جاهل ويعتقد في قرارة ذاته أنه على درجة عليا من العلم، فهو يحيط أناه بدائرة كبيرة من الوهم الشأن الذي يحيله إلى أسير لمرض الإعجاب المرضي بالذات، حيث يخيل إليه أنه يمتلك مفاتيح المعرفة وأنه هو فقط الممثل الحقيقي للحقيقة فيستقر في خلده هذا الاعتقاد على نحو يجعله يأنف من كل نقد ويرفض وبتعال ملحوظ كل رؤية تستهدف انتشاله وتصويب مفاهيمه الذهنية وإيقاظه من سباته العقلي؛ إن الخطورة عند هؤلاء عديمي الكفاية، ومفتقدي الأهلية، تستشري استفحالا عندما يروم أحدهم بث متبنياته - المفتقرة لما يموقعها- فيحتكر الدين لذاته، فينطق وعلى نحوتمويهي باسمه، ويمتهن المرافعة عنه، ويبدو وكما لوكان الوكيل الحصري له!، وهنا يسيء من حيث يريد الإحسان، ويفسد من حيث يريد الإصلاح، إنه يرى أنه هو وحده المنقذ من الضلال، ولايعي أنه هوالضلال بعينه!.وأنه هوالعائق الصلد أمام الوعي النهضوي. تكمن الخطورة أيضا أنه قد يوشح أحدهم طرحه التنظيري بكمّ من الآي القرآني والنص الحديثي على نحو يستهوي بعض العقول فتتعاطف معه وتنساق بدون ما تشعر إليه، ولا تدرك - وهذه هي المصيبة الأعظم - أن هذه النصوص الشريفة مبنية على أسس مفاهيمية والغة في اجتراح الخطأ، فهي تُموضع على نحو غير معتبر، وتستخدم خارج سياقها المعرفي لمقاصد غير شريفة، وتشوه من خلال تحريف منطقها الاستدلالي، وإعادة إنتاج دلالات مضادة، لا تنسجم وطبيعة التقنية النصية، وهذه قمة الاستهتار بالنص، لأنه إنزال له في غير منزلته، واستشهاد به في غير محله، ثمة عبث بالقيمة النصية، وإجهاض للنص، ثمة تفريغ له من قيمته الدلالية، وتجريد له من منطوقه، وحشر لمفهومه في غير موقعه، النص هنا يحشر كقناع فينفى بعيدا عن موضعه الأصلي، يقصى خارج حدوده، يستعمل كأداة تعبوية، ويجند لحرب ضروس هو لايقرها، بل يقطع ببشاعة فعلها الإجرامي، وهكذا يجري التلاعب بالنص باسم النص، ويجري انتهاكه تحت رفع شعاره!،استدعاء النص على هذا النحو التعسفي قد يزين وجه التناول التنظيري، ويضيف إليه الكثير من الجاذبية، ويضفي عليه لمحات جمالية أخاذة، تأسر العقل المتلقي البسيط، لكن ليس بمكنته - وهذا هو الأهم- توفير ولو قدر ضئيل من المصداقية، وليس بمقدوره تحسين مُحَياه الموضوعي، إن الاستشهاد بالنص ليس دائما فعلا معرفيا، بل قد يتحول في بعض المواضع إلى حالة اختراقية للمعرفة، ومسّا صارخا بأخلاقياتها، فهنا المعرفة توظف على نحو غير معرفي، وحينئذ تنتفي معرفيتها وتستحيل - بفعل عدم وضعها في إطارها- إلى فعل تجهيلي يضاعف من تهميش البعد المعرفي على نحو لا يفلح إلا في تسطيح الوعي وإرباك توازنه. إن السطحية والجهل إذا اقترنا بالتدين والزهد فإن المخرجات هنا تكون وخيمة لأن الزهد المتمخض عن إطار الجهل يوقع سالكه في براثن التشدد ويولد لديه نوعا من التصلب الذهني الذي يعمي ويصم، ويولد لديه ضربا من الدوغمائية الحادة؛ هذه الدوغمائية تتضاعف خطورتها هي الأخرى عندما يتوافر المتلبس بها على قدر من المعرفة، لأن مثل هذا بسلوكه المتدين وخصوصا إذا كان يباشر الفتوى يلبّس على بعض الناس فيمنحونه شرعية معينة وينظرون إليه بإجلال وتقديس، لا بل وقد يعتبرونه مجدد العصر، ووحيد الدهر، وأنه سبق عصره!، ويتعاطون آراءه ويتواصون بها ويضيقون ذرعا بكل نقد يوجه إليه، بل يرون أن نقده، نقد للدين نفسه!، ومن نقده فكأنما نقد معلوما من الدين بالضرورة، ويرون أن هذا الناقد لا يخلو من دخَل في قلبه، وأن ثمة زيغا حلّ به حمله على ممارسة هذا الدور الشراني الذي سيجد مغبته ولو بعد حين!، وصفوة القول: فإن الإدراك المتسطح الذي لايتقن قراءة السطور، فضلا عن قراءة مابين السطور، لديه قابلية كبيرة للتقولب وفق أي نمط فكري كسيح حتى ولوكان هذا الفكر يعاني من حالة الشوزفرينيا الفكرية (الانفصام) وهذا ما يحيله إلى لقمة سائغة وهدف سهل المنال وسهل الوقوع في شَرك المعطيات الفكرية ذات المنحى التكفيري.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد