ذات يوم قال ونستون تشرشل إن الحقيقة في وقت الحرب ثمينة إلى الحد الذي يجعلنا نحيطها (بحرس من الأكاذيب). ولكن في الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية - وفي داخل العراق ذاتها اليوم للأسف - لم يعد من الممكن إحاطة حرب العراق بحرس من الأكاذيب، بيد أنها اجتذبت حولها حاشية من أنصاف الحقائق، واللامبالاة المستهزئة، والعناد الجهول.
ما زال الديمقراطيون في أمريكا يزعمون ضرورة الانسحاب الكامل لقوات الولايات المتحدة من العراق في غضون ثمانية عشر شهراً، رغم أن أياً من المراقبين المتعقلين لا يستطيع أن يزعم أن القوات العراقية سوف تكون قادرة آنذاك على مواجهة المليشيات العديدة في البلاد، والتي ما زالت مدججة بالسلاح.
الحقيقة أن الخطة الديمقراطية (إن كنا نستطيع أن نطلق عليها خطة) تتجاهل تخريب إيران المتواصل لمؤسسات الدولة في العراق، وهو الخطر الذي سوف يستمر إلى أن تكتسب هذه المؤسسات القوة الكافية لمقاومة مثل هذه المكائد. فضلاً عن ذلك فإن إصرار باراك أوباما على أن العراق لم تشكل قط جبهة مركزية في الحرب ضد الإرهاب يُعَد إهانة لذكرى عشرات الآلاف - بل وربما مئات الآلاف - من المدنيين العراقيين وجنود الولايات المتحدة الذين قتلوا بواسطة المفجرين الانتحاريين المنتمين إلى تنظيم القاعدة منذ العام 2003 والحقيقة أن الإرهابيين ينظرون إلى العراق باعتبارها جبهة مركزية لحملتهم منذ العام 2004 ولا أحد يستطيع أن يشعر بالارتياح إزاء النداءات المتكررة التي يطلقها جوزيف بيدن بضرورة الانفصال عن العراق (بنعومة)، رغم أن كافة الدوائر السياسية العراقية رفضت الفكرة.
أما عن الجمهوريين، فبرغم حديث سارة بالين عن مهمة أمريكا المقدسة في الحرب ضد الإرهاب، فإن أحداً لا يستطيع أن يتصور أن جون ماكين يعتقد حقاً أن تواجد الولايات المتحدة في العراق قد يستمر إلى أجل غير مسمى. ومن العدل أن نقول إن ماكين لم يقترح قط أن قوات الولايات المتحدة سوف تشن حرباً تدوم مائة عام، كما زعم بعض منتقديه. بل إن ماكين كان يشير إلى تواجد سلمي لقوات الولايات المتحدة في البلاد لمدة طويلة، أشبه بالوجود المستمر لقواتها في اليابان منذ العام 1945
رغم ذلك، وحتى لو افترضنا أن الرأي العام الأمريكي قد يتسامح مع مثل ذلك التواجد، فإن الرأي العام في العراق لن يتسامح معه. لقد ارتكبت أمريكا عدداً هائلاً من الأخطاء السياسية، حتى أصبحت قوات الولايات المتحدة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باحتلال عاجز وغير مدعوم بأي قدر من الشعبية، وحتى وقت قريب كانت التكتيكات التي تستخدمها القوات الأمريكية أشبه بتكتيكات عصابات قطاع الطرق والسفاحين، وهو ما من شأنه أن يثني أي شخص عن الحديث عن تواجد دائم للقوات الأمريكية.
رغم أن أغلب العراقيين يتفهمون الحاجة إلى بقاء القوات الأمريكية في البلاد في الأمد القريب، فإنهم لن يتحملوا فكرة الانتشار الدائم لهذه القوات. وكان من الواجب على مستشاري ماكين أن يضعوا في حسبانهم سابقة تاريخية مماثلة: المحاولة البريطانية الفاشلة مع نهاية الحرب العالمية الأولى للحفاظ على وجود عسكري طويل الأمد في العراق.
الحقيقة أننا لا نستطيع استثناء الساسة العراقيين من محاولات إحراز المكاسب السياسية. ولقد ارتكبت الحكومة العراقية العديد من الأخطاء الفادحة في مفاوضاتها الخاصة بالتواجد المستمر لقوات الولايات المتحدة في العراق. وفي هذا الصيف أقحمت نفسها على الانتخابات الأمريكية حين تظاهرت بتأييد خطة أوباما للانسحاب المبكر. فضلاً عن ذلك، ولثلاثة أعوام متوالية، كان مستشار الأمن الوطني العراقي - وهو طبيب لم يكن يحمل أية مؤهلات لهذا المنصب حين تم تعيينه بواسطة سلطات الاحتلال الأمريكية، باستثناء تحدثه اللغة الإنجليزية ببعض الطلاقة - يصر على أن العام القادم سوف يكون العام الأخير الذي قد يحتاج فيه العراق إلى تواجد القوات الأمريكية.
إن الحكومة العراقية تطالب الولايات المتحدة بوضع جدول زمني لسحب قواتها، ليس لأنها تعتقد أن القوات العراقية سوف تكون جاهزة لتسلم المهمة قريباً، بل لأنها ترغب في تلميع وصقل أوراق اعتمادها الوطنية قبل الانتخابات البرلمانية المقرر انعقادها في العام القادم. وهي بهذا تسعى إلى تحويل انتباه الرأي العام عن الخدمات الأساسية التي ما زالت غائبة، والنزعة الطائفية المستمرة، وضعف إنتاج النفط، والاستثمار الهزيل في البنية الأساسية، وتفشي الفساد والمحسوبية. وما زال علينا أن نرى ما إذا كانت هذه الإستراتيجية قد تنجح في التغطية على سجل الحكومة في الفشل المتواصل في أذهان الناخبين العراقيين.
إن المشكلة الآن بالنسبة للساسة العراقيين والأمريكيين تكمن في أن العمل المتعقل الرزين سوف يتطلب منهم أولاً أن يتحدوا بعض العناصر المنتمية إلى أحزابهم في الداخل. ويتعين عليهم أن يدركوا أن تواجد قوات الولايات المتحدة لأمد طويل في العراق أمر غير وارد، ولكن تواجد القوات الأمريكية المقاتلة سوف يكون مطلوباً - ولو بأعداد متناقصة - طيلة الأعوام الخمسة القادمة. فلن يتسنى للعراق ترسيخ المكاسب الملموسة التي تحققت أثناء العام الماضي إلا في ظل هذا النوع من التواجد من جانب القوات الأمريكية.
إن مثل هذه القوة مطلوبة للاستمرار في ملاحقة تنظيم القاعدة، ومواجهة الأنشطة المناصرة لإيران. ويتعين علينا أن ندرك أن إنهاء التواجد الأمريكي قبل أن يتمكن العراقيون من تحقيق هذين الهدفين سوف يكون بمثابة الكارثة بالنسبة لمصالح كل من الولايات المتحدة والعراق. وفي نفس الوقت، يتعين على قوات الولايات المتحدة أن تدعم الجهود العراقية الرامية إلى تعزيز وتقوية المؤسسة العسكرية وقوات الأمن في العراق، والعمل في نفس الوقت على تفكيك كل المليشيات المسلحة.
إن المليشيات العراقية لن تستسلم بهدوء، ولكن تفكيكها يشكل ضرورة أساسية لتحقيق الاستقرار الدائم في العراق، والذي يمثل بدوره ضرورة أساسية لتحقيق الاستقرار في المنطقة بالكامل. وحين يتم إنجاز هذه المهام - وليس قبل ذلك - فيتعين على قوات الولايات المتحدة أن تنسحب من العراق.
***
فيصل أمين رسول الاسترابادي خدم كسفير للعراق ونائباً لممثلها الدائم لدى الأمم المتحدة أثناء الفترة من العام 2004 إلى العام 2007. وهو في الوقت الحالي أستاذ زائر لمادة القانون بجامعة إنديانا
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008
www.project-syndicate.org
خاص بـ(الجزيرة)