في خضم جولتنا المكثّفة في مكتبة مفكر القرن الدكتور عبدالوهاب المسيري، استعرضنا في مقالات سابقة خمسة أقسام وفق التصنيف المقترح، وهذا يعني أنه قد تبقى قسمان نستعرضهما في هذا المقال بحسب ما تتسع له حروفه وذلك كما يلي:
القسم السادس: كتب الأطفال، لم يكن الدكتور المسيري ليدع الأطفال من دون أن يوجّه لهم بعض أفكاره ويقتطع لهم جزءاً من عطائه بل ويمنحهم شيئاً من روحه، وقد كان ذلك التوجه مبكّراً، حيث كتب قصصاً لهم منذ السبعينيات، وتقوم كل قصة على نموذج معرفي كامن يستهدف تفعيل (التوليدية الابتكارية) في عقل الطفل و(تحريضه) ذهنياً على رفض (النصوصية) و(المعلوماتية) والتعامل مع شر الإنسان وخيريته في عالم (مركّب) يتطلب تفكيراً (عالياً) في نماذجه وأدواته، كما أن المسيري لا يفوّت الفرصة على الطفل، إذ يتيح له فرصاً ذهبية لكي يتعلم صنعة القصص ويتفهم كيفية بنائها وتعديلها وإعادة تشكيلها، ونظراً لانشغال المسيري بمسألة (التحيزات) وحرصه الكبير على تمرين العقل على التقاط التحيزات واكتشافها وتتبعها والانحياز إلى التحيزات التي تنبع من ثقافتنا العربية الإسلامية، لذلك كله فقد اختار المسيري أن يغيّب (البطل الأجنبي) وينفخ الروح في (بطل عربي)، فنراه يختار - مثلاً - (الجَمَل ظريف) بدلاً من (الدب) أو (الفيل) كما هي في الصورة الأدبية التقليدية الغربية.
وفي مكتبة المسيري نجد العديد من القصص المتنوعة في أساليبها وحبكتها، ومن تلك القصص (الأميرة والشاعرة، 1993م)، وفي عام 1999م أصدر مجموعة من القصص القصيرة باسم حكايات هذا الزمان ومنها: (نور والذئب الشهير بالمكّار)، (معركة كبيرة صغيرة)، (سر اختفاء الذئب الشهير بالمحتار)، وفي 2002م أصدر المسيري ديوان شعر حر للأطفال بعنوان: (أغنيات إلى الأشياء الجميلة)، ويتناول الديوان موضوعات أساسية كالميلاد والزواج واكتساب الخبرة والموت، وقد حصلت هذه المجموعة على عدة جوائز.
القسم السابع: السيرة الذاتية، في عام 2000م قدّم الدكتور المسيري كتاباً مهماً جداً تكثف حول نقل أبرز مفاصل سيرته الذاتية ومساره الفكري، وقد اختار له عنواناً (مركّباً) مثيراً له دلالات معرفية عميقة، وقد تمرّد ذلك العنوان على التقاليد المعروفة، حيث جاء العنوان كما يلي: (رحلتي الفكرية، في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية)، وقد صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة وقد نال جائزة أحسن كتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2001م، وقد أعيد في 2006م نشر الكتاب عن دار الشروق وقد ضم إليه ملحق صور للدكتور المسيري، ويقع الكتاب في قرابة 750 صفحة، ويتكون الكتاب من جزءين اثنين هما:
الجزء الأول: التكوين (البذور والجذور) حيث تطرق فيه إلى نشأته في مدينته (دمنهور - البحيرة) وعكس أجواءها الاجتماعية والثقافية والسياسية، ثم عرّج على مراحل تشكّل هويته، والتي بدأت بحلقات الانفصال الشعوري عن بيئته (التجارية) وصناعة طقوسه الخاصة التي تعيّشه لحظات تأمل فكري تسبّبت فيما بعد إلى إصابته المزمنة ب (داء التأمل) وما يرتبط به من طقوس تأملية ك (ساعة الصفاء) و(الحمام الفكري)، وقد أخذنا المسيري معه وأطلعنا على رحلته المبكرة والمضنية للحصول على الكتب لدرجة أنه كان يستغني عن الفسحة الصغيرة ليشتري بثمنها كتاباً، وقد نما شعوره الديني حين التحق - في تلك المرحلة - بجماعة الإخوان المسلمين، فخطب الجمعة في إحدى القرى وعمره 12 سنة، إلا أن ذلك الشعور بدأ يضعف أمام زحف أسئلة لم يتمكن الإجابة عليها، وطغت عليه فيما بعد ولفترة لم تطل كثيراً المادية بطبعتها الماركسية وانتقل إلى جامعة الإسكندرية لدراسة الأدب الإنجليزي، حينها أصبح ماركسياً (منتمياً) وكان ذلك في 1955م، وحظي باهتمام خاص؛ نظراً لمعرفته الجيدة باللغة الإنجليزية وبمبادئ الفكر الماركسي ومصادره، وقد ترجم في 1957م كتاباً عن (التناقض) ل(ماوتس تونج)، وقد كان المسيري يؤكد للرفاق آنذاك أنه لا يسوغ أن (يرقّى) في الحزب بسبب خلفيته البرجوازية مع إصراره على أن يتم اختباره بشكل جاد والتأكد من (نقائه الأيديولوجي)، ومع هذا استمروا في تصعيده!، إلا أنه بعد فترة قصيرة تخلى عن عضوية الحزب ليكتفي بالصداقة في إطار الماركسية (الإنسانية).
وفي عام 1963م غادر المسيري إلى الولايات المتحدة الأمريكية وصوّر لنا كيف عاش هنالك ومن التقى وكيف طوّر بعض نماذجه التفسيرية وكيف فعّل بعض خبراته في إطار ثقافته العربية الإسلامية، وانتهى به المطاف إلى الحصول على الدكتوراه في عام 1969م، بعدها عاد إلى مصر ليتعارك مع ثلاثة (ذئاب) شرسة هي: الميل إلى جمع الثروة، الميل إلى الشهرة، الاستغراق في الأطر المعلوماتية الشاملة ذات الأبنية التنظيرية الصرفة، وذكر أنه نجا من الذئبين الأوليين، غير أن الذئب الثالث ظل يهاجمه من حين إلى آخر، إلا أنه لم يطق الفتك به، كما فتك ببعض أصدقائه!!، ثم عرج بنا إلى رحلة الانعتاق من قبضة الماركسية المادية ونماذجها الاختزالية وما تعج به الفلسفة الغربية من النسبية المطلقة والوضعية المنطقية والعقلانية المادية إلى فضاء (الإنسانية المؤمنة) التي تتأسس على الثوابت الإسلامية وتقوم على بناء واستخدام نماذج تركيبية ذات قدرة تفسيرية، وقد أشار إلى إيمانه بالحاجة إلى (حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم والغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث) (رحلتي الفكرية، ص 225)، ثم تطرق إلى أن فهمه للحضارة الغربية تطور بحيث جعل لا يمارس فصلاً غير مبرر بين تلك الحضارة والحداثة الغربية والامبريالية والعنصرية والنظرة الاستغلالية للشعوب غير الأوربية باعتبار مركزية الإنسان الغربي ومركزية حضارته وما يرتبط بها من نماذج ونظريات ومصطلحات، ثم تناول مسائل متنوعة وعرض لآرائه تجاهها كمسألة الديموقراطية والجنس والاستهلاكية والامبريالية النفسية والتقدم وتسليع الإنسان وحقيقة العلاقة بين الروحي والمادي، وقد أبان أن الانتقال من (ضيق المادية) إلى (رحابة الإنسانية المؤمنة) أو (الإنسانية الإسلامية) - بحسب تعبيره - التي تتنكر للواحدية المادية وتؤمن بالثنائيات قد استغرقت وقتاً طويلاً (ربع قرن)، حينها (تحول الإيمان إلى رؤية شاملة للكون، وإطار للإجابة عن كل التساؤلات) (رحلتي الفكرية، ص 305).
أما الجزء الثاني (عالم الفكر) فقد استعرض فيه الدكتور المسيري أهم أفكاره وما خلص إليه بصورة مبسطة وبكتابة اتسمت بأكبر قدر من التلقائية الساحرة، ومن ذلك أنه أبان عن انتقاله من (الموضوعية المتلقية) إلى (الموضوعية الاجتهادية)، ومن رفض مقولة (العقل السلبي) إلى تبني أطروحة (العقل التوليدي)، ومن رفض (الرصد المباشر) في فهم الظاهرة وتفسيرها إلى استخدام (النماذج التركيبية التفسيرية)، وفي خضم ذلك كان حريصاً على إظهار إيمانه بأهمية استعادة العقل العربي لعافيته النفسية والفكرية، فهو مثلاً يقول لطلابه وطالباته - مازحاً - (أنهم لو قرأوا أعمال أرسطو بعناية للاحظوا مدى تأثره بأفكاره... وغني عن القول أن هذه مبالغة، ولكنها مبالغة كان الهدف منها إيقاظهم ليتعرفوا على إمكانياتهم الداخلية ولا يخافوا من الإبداع) (ص 345)، ويتعرض بالشرح التفصيلي لفكرة محورية لديه وهي (الخرائط الإدراكية) وينقل لنا قصة الملكة الفرنسية التي قالت لفلاح سقط مغمى عليه من الجوع (يا سيدي يجب ألا تتبع هذا الرجيم القاسي)، (فظاهرة الجوع ليست جزءاً من مخزونها الإدراكي) (ص 350)، مشيراً إلى تفعيل الصهاينة للخرائط الإدراكية لتشكيل الرأي العام الدولي، مما يجعله يؤكد على أن (الدولة الصهيونية ليست دولة يهودية، وإنما دولة دولة استعمارية استيطانية إحلالية) (ص 351).
وقد أوضح المسيري كيف تمكن من تحويل النماذج كأدوات تحليل وتفسير للظواهر في دائرة يشدد فيها على أن (الإنسان ظاهرة مركّبة لا يمكن أن تُردّ إلى ما دونها: الطبيعة - المادة) (ص 387)، ثم تعرض لإشكالية التحيز وكيف بدأت معه وكيف تطورت ونضجت إلى مستوى غامر معه الدكتور المسيري إلى عقد المؤتمر الشهير لإشكالية التحيز عام 1992م والذي عده الأستاذ فهمي هويدي (انتفاضة ثقافية)، ثم استعرض المسيري مسائل متنوعة أبرزها طبيعة اهتماماته بالصهيونية وكيف تخلّقت وتطورت وكيف انتهت به إلى الموسوعة الشهيرة التي انتهي منها في يناير 1998م، وختم الكتاب بحبه الأول والقديم: الأدب وضمن ذلك الجزء البواعث التي دفعته لأن يكتب للأطفال ومن أجلهم!
وبهذا نكون قد أتينا بشكل خاطف على أبرز ملامح النتاج (المسيراوي) لمفكر القرن والذي تجاوز أربعين سنة، راجياً أن يكون هذا الاستعراض المكثف مفيداً على تتبع إسهاماته الفكرية الثرية واقتحاماته البحثية المدهشة. ويتبقى لنا مع الدكتور المسيري عدة وقفات.
beraidi2@yahoo.com