Al Jazirah NewsPaper Tuesday  21/10/2008 G Issue 13172
الثلاثاء 22 شوال 1429   العدد  13172
يسألك الناس عن قاسم أمين..! 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل

من مصائبنا الجسام الحساسية المفرطة إزاء موضعة الشقائق وتباين الآراء والمواقف حول الحجاب والاختلاط والخلوة والعمل والتَّعليم والقوامة والتعدد والطلاق وسائر الحقوق والواجبات والفوارق بين الرجال والنساء..

.. إلى الحدِّ الذي تنعدم فيه الموضوعية، وانعدامها كانعدام الجاذبية التي تفقد معها الأجسام وزنها وتوازنها، وتكون كما الهباء المنثور، واحترام الإنسان السوي لذاته يحمله على المرور بهذا اللغو مرور الكرام، والمبتدئون من المتهافتين على قضايا المرأة يودون طرد الغربة عن أنفسهم، والإمعان في فقاعة ألوانهم، والحرص على تداول أسمائهم على ألسنة الوجلين الذين يظنون أن النجوى الآثمة قادرة على طمس معالم الفضيلة.

لقد طُرِح (قاسم أمين ت1908م) من جديد بوصفه من جاهزيات القضية النسوية، بعد أن اجترَّه الإعلام العربي المقروء مائة، وفاقت كتب الرد عليه مائة كتاب وألف مقال، ولما يزل في الكأس بقايا، وكان الناس معه على ثلاثة أنحاء:

- معية مطلقة تكيل له الثناء بغير قياس.

- وضدية مطلقة تكيل له الذم بغير قياس.

- ووسطية متثبتة تنشد التصور السليم ولا تبادر الأحكام.

و(قاسم أمين) الذي لم تكن له شوارد فيما سوى المرأة ارتبط بهذه القضية الساخنة إلى حد الغليان، والتي ظلت قضية من لا قضية له، فكل من أراد اختصار الجهد والوقت وتعجل التألق، وقف واستَوْقف وبكى واستبكى وذكر ما تعانيه المرأة من اضطهاد ومصادرة واستعباد، والناذرون أنفسهم لحراسة الفضيلة كحراس القصور أصابعهم على الزناد يمطرون كل قادم بوابل من ترسانتهم البلاغية، وهذه الراجمات كفيلة بصناعة البطولة الزائفة للمتحرشين بالمرأة، وما صنع المتعالمين إلا الخصومُ الذين يثخنون في الأعراض، والأنصار الذين لا يدرون ما النوايا وما القضايا، وحين ينكشف الغبار تتعرى السوءات وتنكشف الغمة عن أمور لا تساوي المداد المراق والأوراق المسوَّدة، وسيبقى الجدل العقيم ما بقيت السلطة مُتسلِّطة كانت أو عادلةً، وما القوامة التي أحكمها القرآن الكريم، وحرَّفها الأَجْلافُ والمترفون إلا عين السلطة التي تتململ المرأة من تحتها، في ظل هذا الاحتقان والتوتر، ناشدني بعض الوجلين تجليه أمر (قاسم أمين) وقراءته بموضوعية وحيادية، ومن خلال كتبه التي أخرج للناس، لا من خلال ما كُتبَ عنه من قول تحكمه العواطف والمواقف المُسَبَّقة، وما أضر بالقضايا إلا اتباع الهوى واستباق الأحكام الجائرة وموضوعة الذوات دون إثبات و(قاسم أسمن) دخل في ذمة التاريخ تاركاً وراءه وثائق لا مجال لمساكها على هون أو دسها في التراب، وإذ شرع الله لنا في المرأة مالا مزيد عليه، فإن حسم الخلاف في عرض هذه الوثائق على الكتاب والسنة، فما وافقها قبلناه، وما خالفها ضربنا به عُرْض الحائط ولا كرامة، وما تفرقت الأمة إلا من بعد ما اختلفت حول سلطة المرجعية النصية، وأي اختلف في الرأي لا يكون فيه المختلفون متفقين على مرجعية تحسم الخلاف يظلون في جدل عقيم، تتسع فيه هوة الخلاف يوماً بعد يومٍ ولكل حضارة مرجعيتها، وسائر الحضارات موزعة بين العقل والنقل، فهي بين مستويات أربعة: المرجعية العقلية، والمرجعية النصية والجمع بين النص والعقل مع فَوْقِيّةِ النص، أو مع فَوْقِيةِ العقل، وأهل السنة والجماعة يأخذون بالمستوى الثالث، بحيث يجمعون بين النص والعقل، ولكنهم يديرون العقل في فلك النص، وهذا المستوى فيما أرى أسلم وأحكم، لأن الله تعبد الأمة فيما أنزل عليها، وليس من المعقول إدارة النص في فلك العقل، إذ فلك النص واحد وأفلاك العقول مختلفة، وإخفاقات أهل السنة والجماعة ليست في المرجعية، ولكنها في اختلافهم حول الاحتماليات والقطعيات والثوابت والمتغيرات والعبادات والعادات، وهي اخفاقات لا ينجو منها أحد، وما المجددون الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ببعثهم على رأس كل مئة سنة إلا الذين يتداركون الاختلافات، ويقيلون العثرات، ولو أن المستبقين لأي قضية استحضروا هذه الأصول، وردوا اختلافهم إلى الله والرسول لكانوا أقرب إلى الوفاق، ولا سيما في القضايا الحساسة ذات المساس بحيوات الناس كافة، وحتمية الاختلاف لا تمنع من محاولة التقريب بين وجهات النظر أو التعاذر.

واستدعاء (قاسم أمين) بقضه وقضيضه أمام الذين يجهلونه أو يُصَنِّمونه لأنهم معاً لا يقرؤوبه، وإنما يقرؤون عنه، يتطلب العدل والمصداقية، ولن يتحقق ذلك إلا بقراءة وثائق، وما كنت أعد استعادة مثله مضيفة للمشهد شيئاً ذا بال، إلا إنْ كان ثمة تحجيماً لهذا الفيض المضطرب، وإن كنت حفياً بقضية المرأة متابعاً للمستجد في شأنها، و(قاسم أمين) جزء من تاريخ القضية، ولكنه كورق أهل الكهف، وآراؤه بعد هذه الأمة، وبعد مجمل المتغيرات لا تشكل أهمية كبرى فكتاباه (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) لا ينطويان على نظرية مستقلة ولا يُمدان الدارسين بإضافات تختلف عما هو متداول مُنذ مائة سنة، فكتابه الأول (تحرير المرأة) محاولة مرتبكة للتوفيق بين الرؤية الإسلامية والمستجدات الغربية، وفيه لا يبعد النجعة، لأنه يحترم المرجعية ويحاول التوسل بخلافات المذاهب، أما كتابه (المرأة الجديدة) ففيه يحيل إلى المرجعية الغربية ويتوسل بالتجربة الغربية أيضاً، وانتزاع الكتابين من سياقهما يبديهما بحجم المحاولات البدائية، وإن كانت روح المجادلة بادية فيهما، فهو حقوقي يتقن فن الجدل.

و(قاسم أمين) صنعه خصومه، ولم تصنعه إمكانياته، وإن كان مهيئاً للتألق والتفوق لو أنه واصل دفاعه عن أصالة الإسلام كما فعل في كتابه الأول المجهول من كل المتصدين له (المصريون) وهو كتاب ألفه باللغة الفرنسية يرد فيه على أحد المستشرقين، وسوف نعرض لشيء فيه لتجلية بداياته المتوازنة.

و(قاسم أمين) الذي أحدث ضجة صاخبة لا تقل عما أحدثه (طه حسين) عند حديثه عن الأدب الجاهلي، وما أحدثه (مصطفى عبدالرازق) عند حديثه عن الخلافة الإسلامية، مع أنه لم يكن الرائد ولا الوحيد الذي شغلته قضايا المرأة، لقد سبقه (الطهطاوي) و(الشدياق) كما أن حملة (نابليون) قَدَّمت المرأة الغربية بكل صفاقتها التي هزت مشاعر المصريين واستطاع (الجبرتي) في تاريخه تسجيل هذا الاستفزاز بما يوحي بالنكارة والاستغراب، ولقد تولى قاسم أمين بوحي من (سعد زغلول) (تغريب المرأة)، وتثوير الجذور التاريخية لقاسم أمين يضعه بحجمه الطبيعي الذي يجعله الكثيرون، فهو ليس مصري الأصول، فأبوه تركي وفد إلى مصر، وتزوج مصرية، ولد في (الأسكندرية) عام 1279ه - 1863م وفيها درس الابتدائية، وفي القاهرة درس الحقوق، ثم مارس المحاماة وابتعث إلى إلى فرنسا عام 1881م ومكث فيها أربع سنوات، ثم عاد ليتقلب في عدة مناسب قضائية، ولقد تنازعته مدنية الغرب وفكر (جمال الدين الأفغاني) ومن عشيقته الفرنسية وزميلته في الدراسة (سلافا) أشرب حب النمط الغربي للمرأة، ولكنه حُبٌ اتخذ خطوتين: تطويع النص الشرعي، ثم إلغائه، بعدما كان متمسكاً به أشد التمسك في كتابه (المصريون)، ومن يدعي تأثير (الأفغاني) وحده أو (نيتشه) أو (دارون) أو (ماركس) على مساره فإنه يعوزه الدليل، إذ لم ينعكس أي أثر معرفي على موقفه من قضايا المرأة، وأكاد أجزم بأن عشيقته (سلافا) هي وحدها التي أوحت إليه بالرؤية المستغربة، وكل مستغرب وراءه امرأة غربية، فهذا (طه حسين) الذي تزوج من زميلته (سوزان) التي احتفظت طوال نصف قرن بلغتها ونصرانيتها وعرقيتها، كان لها الأثر البارز على تفرنسه، وإن كانت المسافة بين الرجلين ضوئية، ف(طه حسين) صاحب مشاريع ثقافية وأدبية وتربوية ومغامرات تركت آثارها المعرفية وهو قد أفاد الشعر الجاهلي من حيث لا يريد، إذ اعتور قضاياه أدباء ومفكرون ذوو مشارب متنوعة، لقد كان الأدب الجاهلي ثاوياً في كهوف التاريخ حتى أصابه في مفاصله فكان الاهتياج المدجج الذي تقصاه من أطرافه، وكانت الدراسات المتنوعة التي أعادته بكل تألقه، وإذا كان (طه حسين) قد طبق المنهج (الديكارتي) واستثمر جهود (مرجليوث) فإن (قاسم أمين) وصل حباله بمن سلف ك(الطهطاوي) و(أحمد فارس الشدياق) وكان تأثير حملة (نابليون) وآراء عشيقته (سلافا) قوياً، على أن أقوى المحفزات له لصوقُه ب(سعد زغلول) الأمر الذي حداه إلى إهداء كتابه (المرأة الجديدة) له، وسوف نلقي الضوء على دوافع الحملة المكثفة عليه من قبل (قصر الخديوي) ومنعه من دخول القصر ومحاولة استغلال الرأي العام وكسبه، وهذا التداخل بين السياسي والديني والاجتماعي ما سوف نبسط القول فيه لنأتي القضية من قواعدها كما وعدنا.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد