..اتخذت دوري في الطابور حتى وصلت إلى المحاسب السعودي المؤدب داخل السوق التجاري المعروف على طريق الملك عبدالله والذي أخذ يلتقط الحاجيات في مهنية واضحة وسرعة غير معتادة. ها هي الأرقام تتوالى... مائة.. مائتين لننتهي عند 345 ريالاً وأنا في الحقيقة لم أشتر شيئاً يذكر.... كلها متفرقات وخضار بسيطة لم تكن لتتجاوز قبل السنة سبعين ريالاً وها هي اليوم مضاعفة لأكثر من مرة... وأسال
نفسي بصدق ماذا يفعل محدود الدخل؟؟ ماذا تفعل هذه العمالة الفقيرة بهذه الريالات التي طارت بركتها في ظل التضخم المهول وماذا يفعل موظفو المراتب الدنيا بدخولهم التي لن تقضي حتى إيجار منازلهم..؟
في فيلم بديع أنتجه السعودي طراد الأسمري وتجدونه على اليوتوب تحت اسم (راتبي ألف ريال) تتجلي قصة الفقر واضحة غير مستترة عند نسبة عالية ممن نعتقد أنهم آمنون لأنهم (يتمتعون) برفاهية الحصول على وظيفة!! في ظل الشح الوظيفي المناسب لتعليم وإعداد هذا القطاع الضائع من شبابنا الذين ولدوا لعائلات فقيرة غير متعلمة، وكان نصيبهم من التعليم حكومياً بسيطاً ومحدوداً لا تتعدي سنواته في الغالب أصابع اليد الواحدة، لذا لم يتم تسليحهم بما تعد به المدارس الخاصة ملتحقيها من القادرين على دفع أقساطها من مهارات هي التي يطلبها سوق العمل من لغة عربية سليمة قراءة وكتابة ولغة إنجليزية ومهارات في التعامل مع التقنية. وعلى قدر هذا التعليم الكسيح جاءت حظوظهم في المجال الوظيفي ضمن وظائف لا تتطلب مهارات متقدمة. وهو ما يعني أن دخول هذه الوظائف الشهرية لا يكاد يقضي حتى الحد الأدنى من احتياجاتهم في ظل هذا التضخم أو حتى من عدمه. فأي راتب يقل عن أربعة آلاف ريال (وهذا راتب مرفه) لعائلة مكونة من زوج وزوجة ورضيع لن يكون كافياً لمواجهة وحش الاحتياجات اليومية من أقساط الإيجار والسيارة والأكل وحليب الرضيع وحفائظه دون الدخول في دوامة المرض أو الظروف المفاجأة لأي من الزوجين كاعتلال صحي أو مرض والد أو وفاة وخلافه، أو التزامات اجتماعية كأعراس وعزائم لا أظنهم قادرين حتى على التفكير فيها في ظل الالتزامات الحقيقية التي تخنق يومهم..
الحد الأدنى المقرر للسعودي هو 1600 ريال كما قرأت(!!!) دون أقساط السكن، وبذا فألفا ريال بما فيها أقساط السكن ستضع المواطن تحت حد الفقر شاء أم أبى، فكيف بمن يعيش فعلاً على ألف ريال أو صدقات المحسنين المتفرقة دون دخل ثابت، وأعرف الكثير منهم!!
الأسئلة حول ظاهرة الفقر كثيرة: فهل الفقر مثلاً واحد بالنسبة للجميع أم هو يختلف باختلاف وتنوع المجموعات الأثينية والعرقية والدينية داخل المجتمع الواحد؟؟ كيف يمكن تعريف خط الفقر وما هي معاييره؟؟ ماذا نفعل لمواجهته؟؟
رغم أن قياس خط الفقر يأتي من حساب معدل الدخل السنوي العام للعائلة معدلاً بحسب المتوسط العام لعدد أفراد الأسرة الواحدة في مجتمع ما، فعائلة بثماني أفراد غير عائلة باثني عشر فرداً، وهكذا حتى لو توحد الدخل. غير أن الدراسات في معظم البلدان بما فيها المتقدمة أظهرت أن النساء بأطفال ومن غير عائل واللاجئين غير الشرعيين والملونين والأقليات من أعراق أخرى غير السائدة في بلد ما هم في العادة الأكثر معاناة من ظاهرة الفقر.
مشكلة الفقر أنه دائرة بغيضة يصعب التخلص منها متى ما تم الالتحاق بقطارها، فأبناء العائلات الفقيرة يصبحون (في الغالب) فقراء بسبب الظروف البيئية والمدرسية والثقافية الفقيرة التي أتيحت لهم وجعلت حظوظهم من التعليم العام قليلة ومن التخصصات الدقيقة في مؤسسات التعليم العالي التي تجني مالاً تكاد تكون معدومة، وهو ما يجعلهم أسرى لوظائف متدنية الدخل تتناسب وسنوات إعدادهم، كما أن محدودية النوافذ التدريبية والثقافية يقلل من فرص استفادتهم من بعض الخدمات الحكومية والخاصة التي قد تكون متاحة ضمن مجتمعاتهم.
من جهة أخرى تميل الدراسات الحديثة إلى أخذ عوامل أخرى في الحسبان عند تعريف الفقر في مجتمع ما، إذ لا يكفي الدخل الشهري للدلالة على مستوى الفقر، بل هناك عوامل عديدة مثل نسبة التعليم في العائلة، فالحاصلون على أقل من الثانوية العامة معرضون للوقوع تحت طائلة الفقر، قدرة العائل على الحصول على وظيفة من عدمه مؤشر أساسي لوقوع العائلة تحت أنياب الفقر، وجود مواصلات تمكن المواطن من الحركة وقضاء حاجياته، وجود إعاقة داخل العائلة سواء كانت إعاقة جسدية أو عقلية أو نفسية وخاصة لرب الأسرة ونوع السكن المتاح من حيث حجمه بالنسبة لعدد قاطنيه وتوفر الاحتياجات الأساسية فيه ووقوعه في منطقة آمنة من الجريمة والمخدرات، بل إن بعض الدراسات تشير إلى أن الانعزال وعدم قدرة الفرد على التواصل الاجتماعي قد تقلل من قدرته على التمتع ببعض المصادر الحكومية والخاصة المتاحة في مجتمعه مما قد يعرضه للفقر أو يكرس الظاهرة في حياته!
الفقر بيننا حقيقة شئنا أم أبينا لكنه بالطبع ليس ظاهرة سعودية فقط وهو يوجد حتى في أغنى البلدان حيث أظهرت الإحصاءات الحكومية حتى عام 2006م أن أكثر من 36.5 مليون أمريكي يقعون تحت خط الفقر كما تعرفه دولتهم، أي ما نسبته 12.3% من السكان، وبذا فهي مشكلة عالمية لكنها طبعاً لا تنتهي بالجهود الدولية بل تعتمد في جانبها الأكبر على تدخلات محلية حكومية وأهلية لمعالجة المشكلة التي يضخمها لدينا عدم وجود معلومات دقيقة عن نسب الفقر الحقيقة ودرجة انتشاره وعلاقته بالتمايزات العرقية والاجتماعية بما يمكن من وضع معايير وطنية يمكن من خلالها قياس مستويات الفقر الفعلية في البلد.
إن عدم توفر دراسات محلية حديثة تتبع فعالية البرامج الحكومية المطروحة إذا وجدت في معالجة الظاهرة، وعدم وجود نظام حكومي شامل للخدمات الاجتماعية كما هو الحال في كثير من الدول التي تعترف بالمشكلة وتأخذها كجزء من مسؤولية دافع الضرائب لمساعدة غير القادرين في مجتمعه، وعدم القدرة على توزيع الزكاة لتصل فعلاً إلى مستحقيها عبر هذا النظام واستكانة المجتمع إلى نظام توزيع الصدقات والزكاة بالطرق الشخصية كما كان قديماً قبل التوسع العمراني والسكاني الهائل، كلها عوامل تجعلنا فقط نتأمل ثم نشهق كل يوم لحجم الفقر الذي نراه يكبر كالموجة يوماً بعد يوم.. فماذا تظنون أننا فاعلون؟؟؟.
أثق أن 80% ممن يقرؤنني الآن يقومون بشكل أو بآخر برعاية بعض الفقراء وتوزيع بعض الأعطيات المالية عليهم بين الفينة والأخرى.. كلنا نفعل.... لكن ذلك لا يقع تحت مظلة منظمة تضمن الوصول المنتظم والشامل لهذه المساعدة لسد الاحتياجات التي لا تنتهي لهذه العوائل التي تتميز في العادة بكثرة عدد أفرادها وانتشار الأمراض الوراثية بينها (نتيجة التزاوج من الأقارب أو لعدم توفر خدمات صحية مبكرة لمجابهة بعض الظواهر الصحية الطارئة مما يعقد مشكلاتهم الصحية)، ومن ثم فلا يوجد لهذه العائلات مصادر مالية ورعاية صحية وتعليمية تضمن توافر الحقوق الأساسية للمواطن، ولن نتمكن من ذلك إلا عبر نظام مؤسسي شامل يتجاوز حسابات الجنسية واللون والعرق ويتعلم من تجارب الدول الأخرى ذات العراقة في نظام الخدمات الاجتماعية لدرء هذه الفوارق الطبقية الفاحشة التي أكلت الأخضر واليابس.