دعونا نتوقف قليلا لنُعمل العقل والمنطق في قراءة متأنية لنمط من أنماط منتجنا الفني الثقافي، وهو الدراما السعودية المعاصرة. لقد دلف المجتمع السعودي الألفية الحادية والعشرين وقَدَره أن يتعايش مع كثير من تناقضات المجتمع البشري التي دفعت بنا إلى مراكز الاهتمام بعد أن كانت ردحا من الزمن في منأى عن السعوديين أهل (الثروة) و(الترف)، والمعتمدين على الأجنبي في كثير من مظاهر الحياة اليومية، حتى عهد قريب. لكن (التداني) أضحى بديلا عن (تنائينا). وجاءتنا الدنيا بما لم ننتظر من التقلبات الاجتماعية ومن التباينات الفكرية والثقافية، فأصبح السعودي بشحمه ولحمه مطلبا دوليا لصناعة الأحداث والتأثير فيها بعمق.
إنني أعني- من غير مبالغة - كل أصناف الأحداث وأصداف الليالي والأيام: اقتصادا، واجتماعا، وفكرا، وثقافة، وسياسة، وغير ذلك كثير. وكما قال أسلافنا (رب ضارة نافعة)، فقد جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر بكل أضرارها المادية والمعنوية، لتتفتق عنها مواطن للنفع العام كانت ولا تزال أمام السعوديين فرص عظيمة للولوج من خلالها إلى العالمين القريب والبعيد. وليقولوا للناس حقيقة أمرهم وواقع حالهم، في زمن ما كان العالم ليسمع قولهم هذا في خير منه. من هنا انبرت كثير من فعاليات مجتمعنا لتؤكد للعالم كله أننا دعاة سلام، رغم المارقين منا، وأننا أهل تقوى وورع، رغم أنف الذين تطرفوا منا. وأننا أمة وسطية، مهما فرّط بعضنا. وكعادة قيادتنا بادرت بالتواصل مع الغرب والشرق، أداء للأمانة، وحفظا للعهد، ووفاء للوطن. وأطلقت عنان مؤسساتنا في إعادة صياغة أهدافنا الاجتماعية، وتقويم مخرجاتنا لنكون أفضل، ولنستوعب المتغيرات العظام من حولنا. وحذت حذو القيادة نفسها كثير من مؤسساتنا، فقدمت نماذج من العمل الجاد الدؤوب الذي غايته تجلية المواقف وتحديد الرؤى، وحماية (الصورة) المشرقة لبلادنا التي طالها غبش الإرهاب، وشَرَخها دعاة التطرف والغلو. وفي بيئة منفتحة متسقة مع ما تفتق عنه العقل البشري في صناعة الإعلام والاتصال، جاءت الأداة الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية لتجعل من السعوديين مادة عضوية حيوية. فقد أصبح الخبر والتقرير والتحقيق، وأصبحت الصورة أغلى ثمنا وأكثر ربحا كلما كان في الأمر سعودي أو سعودية، فاستأسد إعلام القوم البعيدين عنا علينا، ونال، أو هو كاد أن ينال، أو أنه ما زال ينال منا، متكئا على خبرات عظيمة، ومهارات مهيبة، وقيادات إعلامية تدرك فتك الإعلام وسطوته. وبات لسان حال الناس عندنا أن أيها الناس اسمعوا وعوا، فكان لزاما على (كل) الناس وليس بعضهم أن يعوا حساسية المرحلة التي يمر بها مجتمعنا السعودي، وأن يدركوا أمانة القول والفعل في التعبير (عنّا)، وفي الدفاع عن (صورتنا). ومن العجيب أنه في حال نجحت فيه عدد من مؤسساتنا غير الإعلامية، أخفق الإعلاميون عندنا في أداء الدور باقتدار، ومع أنني لا أتعجل في لوم لإعلاميين على إخفاقهم في علاج واقع فاجأهم!! وهم من لم يكن يتح لهم امتلاك ناصية مهنتهم ردحا من الزمن، إلا أنني أقف حيران أسفا أمام شاشات فضائياتنا العربية والسعودية، وهي تقدم أعمالها الدرامية خلال شهر رمضان. وسأتجاوز كثيرا جدا من مثالب هذه الأعمال لأقف وقفة أطرح فيها تساؤلات مهمة، مازال يقلقني جوابها، من باب (إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم). أقول وقد انقضت أيام رمضان، وشاهدنا كثيرا من ساعات الدراما السعودية: هل أدرك القصبي، والسدحان، والمالكي، والعسيري، والشمراني، والحيان، وزملاؤهم دون استثناء ما فعلوه بصورتنا؟ فحين يصرح أحدهم عبر حواره الإذاعي الذي امتد لساعات في ليلة من ليالي رمضان أنه ورفاقه يدخلون موقع التصوير وهم لا يحملون فكرة ولا هدفا، ولا يعرفون ماذا سيقولون، هل أدركوا -والحال هذه- إلى أي واد سحيق يقذفون بنا؟ وبمكتسباتنا؟ وبكل ما فعله الخيرون منا مؤسسات وأفرادا، طيلة عقد من الزمن، لتحسين صورتنا، وبيان حقيقتنا، والذود عن مكارمنا، وفضح العابثين منا بأمننا، وبمقدراتنا؟. هل أدرك أولئك أنهم يملكون أداة من أعتى أدوات العصر؟ وأنهم يدخلون منازلنا وحجراتنا ويقاسموننا تنشئة أبنائنا وبناتنا؟ هل تبينوا أننا سعوديون؟ وأنهم سعوديون؟ وأن القضية سعودية؟ هل خطر بأذهانهم أنهم يتاجرون بقضيتنا المصيرية؟ وبمنعطفنا التاريخي؟ ثم يأتي السؤال الأكبر: إلى أي مدى يحترم هؤلاء الأطر العلمية والمناهج المهنية التي تمليها دساتير صناعة الإعلام، وفنون الكوميديا والتراجيديا؟
أرجو ألا تترك ساحتنا الدرامية للهواة منا الذين ظنوا في يوم من أيام العرب أنهم أهل صنعة وأرباب اختصاص. إن للدراما أسسا وقواعد لا يحسن بمثل هؤلاء أن يغفلوا عنها. وإن الفنون المجتمعية تعبر عن واقع مجتمعي حقيقي أو افتراضي، لكنها -أبدا- لا تجتزئه. ولو سلمنا بكوميدية التوجه في منتجنا الدرامي المعاصر، برزت أمامنا ثلاث ملاحظ كبرى: الأولى: أن الكوميديا (موقف) و(نص) و(أداء)، وليست على الإطلاق شخصية كاريكاتيرية تتكلف الكوميديا تكلفا. الثانية، أن الكوميديا ضرب من ضروب العمل الدرامي الأقدر على معالجة المشكل المجتمعي، لكنها - أبدا- لا تتجاهل أساسيات الطيف المجتمعي كله، عندما تعبر عن عناصره وعن مكوناته البشرية المتنوعة. فالكوميديا يمكن أن تخلق صورة عن واقع مجتمعي، ولكنها عندما تفعل ذلك، لا تبتر تلك الصورة أو تخرجها من سياقها. الثالثة: إن القراءة المتأنية لواقع المرحلة التي يمر بها مجتمعنا السعودي، تتطلب أعمالا درامية واقعية، تحمل فكرا مستنيرا، وتقوم على نص مدروس بعناية، بكل أبعاده الموضوعية والجغرافية والسياسية والتاريخية. إن اضطراب تلك الأمور الثلاثة في منتجنا الدرامي المعاصر، يؤكد أننا أمام (مهرجين)، أكثر منهم (ممثلين). حتى طلاء الوجه الذي اشتهر به المهرجون لم نعد نفتقده في منتجنا الدرامي هذا. ولأنني أحترم جهد المجتهدين، وأقدر ما يبذلونه من محاولات، فسأحاول أن أتلمس لهم العذر وأن أدعوهم إلى ثني ركبهم في معاهد الفنون والسينما والمسرح. فليس على التعلم كبير. أدعوا -والحال هذه- أن يجتمع هؤلاء مباشرة بعد رمضان لإنشاء معهد سعودي وطني للدراما، على غرار كثير من دول العالم المتقدم، وأن يشرّعوا لممارساتهم وممارسات أجيال تلحقهم، بالنظرية وبالتطبيق. لا أطلب أبدا -في هذه المرحلة- أن نعيد الأمر إلى مؤسساتنا الرسمية، خشية أن تكون غير مستعدة لذلك، لكن الشأن أن يكون أهل الصنعة أكثر حرصا على مستقبل صنعتهم، وأن يتقبلوا -بصدر رحب- ما يسمعونه أو يقرؤونه، من جماهيرهم.
تحية لكل (المهرجين) الذين أضحكونا في رمضان: يوم ضحكنا حينا عليهم، وحينا على حالنا معهم. وتحية لهم يوم ابتسمت بناتنا الصغيرات على استحياء وطأطأن برؤوسهن بين ركبهن حياء من مشهد لم يستح من عرضه الكبار. وتحية لهم يوم يسخر منا العالم من حولنا من هول ما يرونه عنا بشهادة مجتهدين مخطئين من بيننا. إن إعلامنا أمانة في أعناقنا فلنحسن أداء الأمانة، أيها الأحبة. ولنعلم قبل ذلك وبعده، أنه ما من أحد منا يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. إن لم نرع في صناعتنا إلاًّ ولا ذمة، فلا عذر لنا في أن نتوقف عن الإساءة إلى (كتلتنا) المجتمعية. ف (نحن) خط أحمر. عندما لا يحسن بعضنا التعبير عنه فالأحرى به أن يؤخذ على يده. لأن المتاجرة بنا، والإساءة إلينا وإجهاض مشروعنا التنموي العالمي، عبر تقديم (سذاجة بعضنا) على أنها (كلنا) أمر لا يمكن قبوله، ولا احتماله. وبقراءة (نفعية) محضة، أقول لفنانينا وممثلينا: لم تزل السعودية، ولم يزل السعوديون مادة (دسمة) لمنتجكم الرمضاني القادم، ستجلب لكم مزيدا من الثراء. لكننا نتطلع إلى أن نتعلم نحن وتتعلمون أنتم من أخطائنا وأخطائكم، وأن نكون في رمضان القابل أقدر - بإذن الله تعالى- على التعبير (عنا)، وأكثر حرصا على (صورتنا)، وأن لا نزيد من شرخ (تلك الصورة) دون وجه حق، إلا أن (منّا) من ظن (بنا) الظنون، وراح يرقبنا من النصف الفارغة للكأس، وزاد على ذلك أن قال للعالمين (عنّا): أن دونكم (نحن)، (كلنا).
Alhumoodmail@yahoo.com