حسب إدراكي لتاريخ السلفية لم تخرج الفتاوى من المرجعيات السلفية المعتمدة عن إطارها المحافظ في القرون الأولى، لكن خلال الفترة الزمنية المتأخرة من تاريخها الحديث..
ظهر من يحاول الخروج عن تلك المحافظة التي عُرفت عن منهج السياسة الشرعية السلفية، وهو ما أدى إلى حدوث مواجهات ومصادمات ما بين تيارات دينية داخل دائرة السلفية، ولعل ما حدث من غزو ثقافي ومعرفي وتقني إعلامي غربي ثم ما يحدث من تسارع مضطرد في اللبرنة الاجتماعية أو الفساد الاجتماعي حسب ما تقره بعض المراجع الدينية قاد البعض إلى أن يخرج عن ما عُرف عنه من محافظة ومراعاة للفتنة وأسبابها وأن يصدر أحكاماً بالفسق أو الكفر في حق البعض من المسلمين، وهم حسب الأصل السلفي الثابت مؤمنين نقص إيمانهم ولم يزد، وقد يقود هذا الانقسام إلى ما لا تحمد عقباه في المستقبل إذا لم يتم إدراك معالم هذا الصراع، ولعلها فرصة للمجتمع بمختلف مشاربه أن يتوقف قليلاً ويتأمل أسباب الصراع الداخلي في المدرسة السلفية.. وهو ما كان نتيجته إدخال كثير من مبادئ السلفية وأصولها الثابتة مثل عقيدة الولاء والبراء في فهرس قاموس الإرهاب العالمي..
يحرص المنهج السلفي القويم على منح درجة الإيمان للذين على العقيدة الصحيحة، وتشتد مواقف السلفية ضد المخالف المبتدع في العقيدة، وليس ضد أهل الفجور والفسق إذا كانوا ملتزمين بشروط الإيمان، فصاحب الكبيرة من أهل السنة لا يخرج من دائرة الإيمان بالدين الصحيح، والإيمان يزيد وينقص، ولهذا روى عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب السنة عن أبيه أنه قال: لما سئل عن الإرجاء قال: نحن نقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، إذا زنى وشرب الخمر نقص إيمانه، وقال الإمام أحمد: قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة، وقبور أهل البدعة من الزهاد حفرة، فساق أهل السنة أولياء، وزهاد أهل البدعة أعداء الله. (طبقات الحنابلة 1 - 184)، لكن هذا الأصل العقدي فقد شيئاً من ثباته، فقد قللت بعض المواقف المتشددة لبعض المجتهدين الجدد من مطلق حكمه كأصل لا يحتمل التشكيك أو التناقض معه.
الموقف من السلوك أو أعمال الإنسان في الدنيا قديم ويرجع لعصر الكلام ما بعد الفتنة الكبرى، وبالتحديد في موقف بعض الفرق كالخوارج والمعتزلة من أصحاب الكبائر، وكان لب المعضلة أن الفرقاء كانوا يستخدمون الأحكام الأخروية دنيوياً من أجل تبرير مواقفهم في قتال المخالفين أو إخراجهم من الأهلية الشرعية.. فقد كانت الخوارج تعتبر فاعل الكبيرة كافر يُستحل دمه، بينما ترى المعتزلة أنه فاسق خرج عن دائرة الإيمان، وفاقد للشرعية.. ولا يعود إلى دائرة الإيمان إلا بالتوبة، ودرجة الفسق هي ما عرف بالمنزلة التي بين المنزلتين أي ما بين الإيمان والكفر، ويرى بعض الدارسين لتاريخ العقائد والطوائف عند المسلمين أن تلك الاختلافات الجوهرية كانت مرآة للخلاف السياسي بين السلطة ما بعد الخلافة الراشدة والمعارضة التي تشكلت في عقائد وفرق كان هدفها إسقاط الشرعية عن بعض الولاة وذلك بإخراجهم من الإيمان من خلال التكفير أو التفسيق.
لكن المنهج السلفي الذي اجتهد في تأصيله الإمام أحمد بن حنبل من القرآن والسنة ومن بعده شيخ الإسلام ابن تيمية أعاد صاحب الكبيرة إلى دائرة الإيمان، وأكتفي حسب ما جاء في السنة الشريفة أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وبالتالي عدم استحلال دمه أو الدعوة لتفسيقه ثم إخراجه من الأهلية الشرعية.. لذلك كانت دعوة القتل قضاء خارجة نوعاً ما اعتدنا سماعه من علماء السلفية، وما يزيد في الأمر تناقضاً حسب وجهة نظري هو أن الاختلاف في المدرسة السلفية الحالية لم يعد حبيساً في القاعات، ولكن ظهر على صفحات الجرائد في مسائل شتى كان آخرها في تعريف قضايا الإفساد الذي من أحكامها القتل، أو الأفعال التي تدخل ضمن دائرة الإفساد في الأرض.. وهي قضية شائكة ولا يمكن طرحها للجدل بهذه الصورة على صفحات الجرائد..
ولو لم تكن تلك الفتاوى مختلفة نوعاً وخارجة عن نواميس الأصول لما أحدثت هذا الضجيج والصدى الذي وصل إلى شتى أنحاء العالم، وجاء هذا نتيجة لما يحدث من حرب فتاوٍ إن صح التعبير بين علماء الدين وبسبب خروج مجتهدين جدد يرفضون بعض هذه الأصول ويعارضونها من خلال فتاوٍ، لكنهم بطبيعة الحال لا يملكون الجرأة على التصريح بخروجهم عن حدود السلفية ومن عقديتها وفقهها السياسي، ولعل إعلان الحرب على الإرهاب الإسلامي كما يُطلق عليه الغرب وتضييقه على مختلف الأعمال الخيرية كان نتيجة للانفجار الذي حدث داخل المؤسسة السلفية، وظهور اجتهادات تعارض الموقف السلفي الأصولي من الفساق من أتباع العقيدة السلفية.
وهو ما يدعونا إلى أن نتحرك في وقت مثالي لتعريف الفساد ولتحدد عقوباته الدنيوية كل على حدة، وأن لا نكتفي بتبرير حدوثه أو تشريعه إن صح التعبير بسبب أن الموقف الإلهي من أن فاعل الفسق والفجر هو الإيمان الذي قد يقنص بالمعاصي لكن لا يفقد إيمانه، أو أن نتطرف في إعلان الأحكام القاسية ضده من خلال إخراجه من الدين ثم تبرير قتله، وعلى عاتق علماء الشريعة والقانون مهمة جسيمة وعليهم أن يتحركوا، وأن لا يتركوا الحبل على غاربه أو عرضة لسوء الفهم بين صاحب الغرض والمجتمع، وأن يحرصوا ألا تكون الأصول السلفية أو ما يخالفها من تطرف مصدراً للحكم داخل قاعة الأحكام القضائية، وأن تكون هناك مراجع مكتوبة لتحديد أنواع الفساد في الدنيا ثم تفصيل أحكامها..
الجدير بالذكر أن نظام تطوير القضاء أقره خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله حفظه الله، ولا يزال المجتمع ينتظر خروجه للضوء، والذي من المنتظر أن يؤسس نظاماً قضائياً متكاملاً وقادراً على تلبية حاجات المجتمع وعلى منح درجة علاية من الاستقرار في البلاد، فما يحدث الآن من تراشق واختلاف بين مختلف تيارات الدين في قضايا القضاء والفقه لا يخدم مصالح الوطن.