لقد كان من الممكن للأزمة المالية العالمية الحالية التي انفجرت في رحم أحد أهم معاقل الاقتصادات الرأسمالية العالمية ألا وهو الاقتصاد الأمريكي، أن تصل إلى مرحلة الانهيار الشامل لو كان القطاع المالي الأمريكي برمته مصمما بطريقة تشابه القطاع المالي لأي بلد عربي، كما كان يعتقد غير المتخصصين في شؤون المال والاقتصاد، ولكن الحقيقة هي أن تلك الأزمة لم تكن لتشكل خطرا يستحق الاهتمام على القطاع المصرفي التجاري الأمريكي على وجه التحديد لأنه القطاع الأهم في الاقتصاد المحلي، وهو القطاع الذي يمس مباشرة الوضع المالي على المستوى الشخصي ومستوى الرفاهية الاجتماعية لكل مواطن أمريكي.
وخلال الأزمة المالية الحالية ذات البعد العالمي لم نسمع كمراقبين اقتصاديين خارجيين للاقتصاد الأمريكي أية تصريحات أو تأكيدات حول حجم المخاطر (إن وجدت) التي من الممكن أن تتعرض لها الودائع الشخصية للأفراد الأمريكيين في المصارف الأمريكية وذلك من قبل وزارة الخزانة الأمريكية أو من قبل ال (FDIC)، ويعزى السبب في ذلك إلى أن المصارف التجارية الأمريكية لم تكن طرفا أساسياً في تلك الأزمة فهي لا تمارس نشاط الوساطة المالية مثل ميريل لينش وغيرها من شركات وصناديق الوساطة المالية، ولا تمارس نشاط الاستثمار المتنوع الذي تختص به مؤسسات متخصصة تعرف باسم بنوك الاستثمار على غرار ليمان براذرز وجولدمان ساكس وغيرهما من المؤسسات المالية الشهيرة التي هي من تضرر وبشكل كبير بفعل الأزمة المالية الحالية؛ لأنها كانت سببا رئيساً في نشوئها، فتلك المؤسسات الاستثمارية تتفاعل فيما بينها ضمن منظومة مالية متداخلة ومعقدة جدا تتألف من شركات مالية صغيرة ومتنوعة تختص كل منها بنشاطات مالية متنوعة كالرهن العقاري والتمويل العقاري والائتمان وصناديق التحوط وغيرهم كثير.
ماذا لو حدثت تلك الأزمة لأي اقتصاد عربي أو خليجي أو سعودي على وجه التحديد؟ بالتأكيد لكان الانهيار الكامل للنظام المالي المحلي هو النتيجة الحتمية لمثل هذه الأزمات التي ستصبح ككرة الثلج تبدأ صغيرة ثم تتعاظم، وبالتالي سيكون الضرر شديدا ومباشرا على الاقتصاد المحلي وعلى المواطن بدرجة أكبر، الذي سوف يخسر جميع أمواله التي قد يكون أودعها في حسابات بنكية بدون فوائد، حين يراها تحترق أمام ناظريه تماما كما حدث لاستثماراته المالية التي تبخرت في أسواق الأسهم الخليجية والسوق السعودية تحديدا في الأشهر الأخيرة.
إذاً هل نستبق الأحداث ونعالج الخلل في التركيبة الحالية لقطاعنا المصرفي السعودي، ونقوم وبأسرع وقت ممكن بعملية تجزئة وفصل حقيقي للنشاطات الحالية التي تمارسها بنوكنا التجارية منذ نشأتها ولا تزال؟، فهي تمارس النشاط المصرفي المعتاد من حفظ لأموال المودعين من المواطنين والمقيمين وتقديمها بطريقة عكسية كقروض شخصية استهلاكية أو تجارية للأفراد وللمؤسسات التجارية المحلية وهي هنا تعمل كبنوك تجارية عادية، كما تمارس بنوكنا كذلك نشاط الاستثمار بأنواعه داخليا وخارجيا وهي هنا تعمل كبنوك استثمار، وأخيرا تمارس بنوكنا نشاط الوساطة المالية وإدارة الأموال الخاصة والعامة وهي هنا تعمل كشركات وساطة مالية بشخصية غير اعتبارية حقيقة. فهل حان الوقت لأخذ العبرة من الأزمة المالية العالمية الحالية وعدم الانتظار حتى تتفجر أزمة مالية محلية تكون أشد ضرراً وأكثر إيلاما بحكم التركيبة (المركبة) للقطاع المصرفي السعودي، والتفكير جديا بإعادة هيكلة القطاع المصرفي السعودي والتخلي عن الصفة الاحتكارية التي يتميز بها هذا القطاع عن غيره من بنوك العالم؟ أعتقد انه آن الأوان لأن نفصل هذه النشاطات الثلاثة بحيث يكون لكل منها شخصية اعتبارية مستقلة تماما عن غيرها من النشاطات الأخرى، وليس كما هو حاصل الآن مع الفصل (الشكلي) لنشاط الوساطة المالية عن البنوك.
إن مثل هذا الفصل بين تلك النشاطات سوف يقلل من المخاطر التي قد يتعرض لها القطاع المالي المحلي مستقبلا وبالتالي يمكن السيطرة على أي اختلالات قد تحدث في أي من تلك القطاعات بالطرق المناسبة التي لا تؤثر سلباً على القطاعات الأخرى. إن في فتح القطاع المالي المحلي ليستوعب العديد من المؤسسات المالية ذات النشاط المختلف وعلى رأسها البنوك الاستثمارية سوف يقلل من المخاطر التي قد يتعرض لها النظام المالي السعودي، وفي الوقت نفسه سيؤدي إلى خلق الآلاف من الوظائف الجديدة التي ستكون متاحة للخبرات الوطنية المتخصصة في مجال المال والأعمال التي بدأت تدلف إلى سوق العمل في الفترة الأخيرة، ناهيك عن ابتعاث الآلاف منهم لدراسة العلوم المالية والاقتصادية المختلفة في مختلف بلدان العالم - ضمن برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي - الذين سيشكلون محورا أساسيا في عملية إعادة هيكلة القطاع المالي السعودي وتطويره إذا ما تم استيعابهم بطريقة احترافية، ولا ننسى أن القطاع المالي وبحكم تطوره التقني يلعب دورا أساسيا في عملية تحويل الاقتصاد السعودي من اقتصاد يعتمد على البترول إلى اقتصاد يعتمد على المعرفة، فهل نرى قريبا من يتبنى فكرة إعادة هيكلة القطاع المالي السعودي سواء من قبل مجلس الشورى ممثلاً في لجنة الشؤون المالية والاقتصادية، أو من قبل المجلس الاقتصادي الأعلى؟.