Al Jazirah NewsPaper Wednesday  15/10/2008 G Issue 13166
الاربعاء 16 شوال 1429   العدد  13166
الخطاب الديني وضرورة التصدي لتقديس الأشخاص
عبدالله بن محمد السعوي

الاشتغال على تنمية الحس النقدي والاحتفاء بالأسئلة وتحفيز الأتباع على إثارتها وتحسين مستوى المحاكمة العقلية لديهم من أبرز القضايا التي تقع على عاتق الخطاب الديني, وقيامه بها على نحو سليم من أهم العوامل التي تسهم في نجاحه

في أداء وظيفته الرسالية؛ ولذا فلا مناص أمامه من التنظير المكثف الذي ينطوي على ما من شأنه صناعة الملَكة التساؤلية, وصياغة الذهنية القلقة, وتنمية العقل المتسائل الذي يتميز بفضيلة الفضول المعرفي ويتحلى بقدر كبير من الشك فلا يقبل كل ما يسمعه على علاته، ولا يأخذه بقضه وقضيضه, وعجره وبجره, وإنما يعمل على تقييمه, وترشيده, وتصويبه, وينفذ إلى ثغراته ويقف عن كثب على ما يشوبه من تناقض. من الضروري التأصيل في روع الطالب أن إلقاء الأسئلة يدل في بعض سياقاته على ضرب من الذهنية المتألقة التي لا تقنعها الأجوبة المصمتة بقدر ما تثير لديها المزيد من الأسئلة, إن من الواجب أن لا نحتفي بذلك الطالب الذي يسهل إقناعه بأي جواب وتسكيته بأي حجة مهما كانت واهنة وإنما يجب أن يكون الاحتفاء من نصيب ذلك الطالب الذي يتفتق إدراكه عن حزمة من الأسئلة العميقة التي تنم عن حيوية في الوعي وتشي بشخصية ذات حضور استقلالي؛ إن تربية الطالب على التماهي الكلي والانصياع المطلق والتمثل الحرفي, هو الذي يخلق كائنات مسكونة بروح إمعية ويكرس خلق التبعية والتقليد, ويجعل من الطالب صورة مكررة لشيخه, إنه يتلاشى في إطاره, يذوب في بحره, يختفي فيه, الطالب هنا قد أجر عقله, تنازل عنه, باعه بثمن بخس, فشيخه يفكر بالنيابة عنه!

إنها كارثة أن يتعامل بعض الطلاب مع شيوخهم بهذه الطريقة التقديسية, التي تذبل فيها قيمة النقد, ويحل محلها لغة التسليم الأعمى والقبول الأبله والانقياد الساذج, ومنطق (نفّذ ثم اعترض) وأن الأستاذ يطاع ولا يناقش, ولا يُسأل عما يفعل, وما إلى ذلك من تعبيرات لا تعكس إلا ثقافة القمع والإسكات والاستبداد الديني! الطالب هنا يدور في فلك شيخه, يذوب فيه, وعلى نحو ميكانيكي يتشرب أفكاره - حتى ولو كانت تحمل في طياتها مفاهيم قلقة وغير موزونة - وببغائية متناهية يردد مقولاته, ويتفانى في تسويغ تناقضاته, ولا يتجرأ على معارضته, المريد هنا مع شيخه كالميت بين يدي مغسله!, يتعاطى معه بنفَس انقيادي وبمنهج تسليمي. الشيخ هنا يجرد تماماً من بشريته, ويخلع عليه كل الصفات الخارقة, ويضفى عليه من الكمالات والخيال الوهمي ما يحيله إلى منطقة محرمة لا يجوز اقتحامها بالنقد, ومهما عمل بل حتى لو أوغل في الخطأ فإن ذلك- في نظر مريده- هو عين الحكمة ومظهر التعقل!. هنا عبودية ولكن من نوع آخر, ثمة تأليه للبشر, ثمة ربوبية مزيفة تتجلى على أكثر من صعيد, ثمة تصنيم نتلمس اتساعه المتنامي باستمرار, المريد مسكون بالإعجاب، مأخوذ بشخصية شيخه, يضفي عليه هالة من التقديس المصطنع. الطالب هنا ليس إلا مجرد متلقٍ يصفق لما يسمع, يصفق بكل حرارة لكل عبارة يتفوه بها شيخه. طبعاً البعض يصفق للشيء ونقيضه في وقت واحد! ولذا فهو مطرق رأسه, يسير مع شيخه جنباً إلى جنب, حتى ولو كان شيخه مسكوناً بتقلبات فكرية فظيعة, حتى ولو كان يتقن وبمهارة عالية, التنقل - وبديناميكية فائقة ? من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار, ومن منهج إلى منهج آخر مضاد, حتى ولو كان في غاية التذبذب, على نحو لا يكاد يسوق لرؤية إلا ويسارع في التنصل منها والانقلاب عليها, لا يستقر على فكرة إلا ويمهد حالاً لمغادرتها! في كل هذه الاحوال المتناقضة الطالب المسكين يلهث خلف شيخه, الذي لا يمكن التنبؤ بما يفعل, فسلوكياته المستقبلية مفتوحة على كافة الاحتمالات, ما كان يستميت في سبيل تأصيله بالأمس ينقلب عليه اليوم, وما يقرره اليوم فهو عرضة لأن ينقضه من الغد, فالمسألة مسألة وقت فقط! فهو يتذبذب بين أنماط متباينة الاتجاهات على نحو يوقع الطالب المسكين في بلبلة ذهنية يتعسر عليه تجاوزها. وأحياناً تكون المعادلة معكوسة في بعض البيئات, فالشيخ هو الذي يقع ? بوعي أو بلاوعي ? في أسر مريده, فهو لا يتحرك إلا وفق مراده, ولا يقول إلا ليعزز ما استقر في ذهنه, ولا يتفوه إلا ليزكي ما يدور في خلده, إنه خاضع لإرادة مريده, واقع تحت قبضته, محكوم بتوقعاته عنه. إن من المفترض أن القائد الفكري يربي اتباعه من الأساس على المرونة الذهنية واصطفاء الأفكار المتسامحة, وأن يتفانى في سبيل تعميق الروح الاستقلالية وضخ بواعثها وأن يكرس في أذهانهم احترام المخالف في الرأي وعدم التثريب عليه, وأن يؤصل في وعيهم أن التغير المنضبط, ومغادرة وضعية إلى أخرى أكثر منها اتزاناً, والانتقال المدروس من فكرة إلى مغايرها, شأن تتحتم الصيرورة إلى مباشرته, وأنه ليس ثمة ضير في ذلك. إن هذا الأسلوب في التربية يفيده هو أيضاً حيث يتيح أمامه فرصة لمراجعة أقواله, ويوجد له فسحة للانسحاب, ويفتح أمامه خط الرجعة، فإذا راقت له فكرة ما يستطيع الانتقال إليها بهدوء ومن دون ما يحدث بلبلة أو ضجيجاً أو تشويشاً أو شوشرة, ومن دون أن يشتت أذهان اتباعه, أو يجعلهم يعيشون في اضطراب فكري. إن تربية الأتباع على أن التحول الفكري والترحال المنهجي واجب تمليه الموضوعية إذا توفرت دواعيه, أمر في غاية الأهمية, إذ من شأنه أن يدعم فرص الداعية في التحرر من الأفكار التي يتجلى له الحق في نقيضها, فيشد رحاله إليها من دون أن يحصل له تصادم مع مريديه, ومن دون أن تلفظه الجماهير, كما هو واقع بعض أرباب المراجعات في راهننا الحالي عندما أرادو ممارسة حقهم في الترحال الثقافي واهتدوا إلى لون من التغيير الإيجابي وراموا الصيرورة إلى قوالب دعوية أكثر تسامحاً على نحو ينمّ عن حالة من النضج العقلي عندما أراد هؤلاء ممارسة هذا الحق المكفول لهم انفض عنهم أتباعهم, ونبذوهم وبارزوهم الشنآن, وأحاطوهم بدائرة من الشكوك في مقاصدهم, على نحو ضاعف القطيعة بينهم على مستوى الحس والشعور, وجرى نفي هذه الكينونات التي تشع قداسة - في سالف عهدها! طبعاً في نظر مريديهم- جرى إقصاؤها تماماً لتغدو شبيهة الشر المحض!! وإطلالة سريعة على المنتديات الإنترنتية تكشف لك عن هذا الواقع المؤلم, مع أنه كان من المفترض أن يُبارك هذا التغير في بعض جوانبه ويزكي ويرحب به, لكن هذه عادة الجماهير فهي أحياناً تفقد الثقة بمن ينتقل من حال إلى حال! ولا تحاول أن توجد له مسوغاً مهما كانت الظروف.

هذه القيادات الفكرية لا شك تتحمل مسؤولية ذلك، إذ لو أسست وعي اتباعها على التحلي بقدر كبير من التسامح الفكري لما بتنا نشاهد هذه الاحترابات الفكرية القائمة الآن بينهم وبين أنصار الماضي على نحو أفضى بأرباب المراجعات إلى التحوير في بعض أفكارهم ربما أحياناً - ليس بناء على قناعات ذهنية بقدر ما هي ردود أفعال تقود إليها مناكفة الخصوم.

وهذا طبيعي, فالدخول في حالة عناد مع الخصم يولد رغبة دفينة في إرغامه, هذه الرغبة الدفينة بدورها تتأصل كشعور مستتر في العمق يمارس حضوره من الداخل ويجري التصرف بوحي منه. وهذه كارثة لأن هذا يعني أن الفتاوى والأفكار التي يتم التنظير لها قد تحولت في بعض جوانبها إلى آلية لتصفية الحسابات, وتكتيك استراتيجي لاستفزاز المناوئين, والرد عليهم, قد يبدو للوهلة الأولى أنه ليس ثمة ردود، ولكن في الواقع ثمة رد, ولكنه يتم بشكل غير مباشر, ثمة استبسال في الدفاع عن الذات, ولكنه يجري في الظل, ثمة مقاومة مستميتة, لكن التعتيم عليها جارٍ على قدم وساق! وهذا ما يجعل التغير عند بعض القيادات الفكرية لا يأتي جملة وإنما يجري بالتقسيط. وفي تقديري أن الجعبة فيها الكثير من المشروعات التغييرية الإيجابية, لكن ثمة تباطؤ في الجهر بها, فالإفصاح عنها يتم على شكل جرعات ? وقد يكون لذلك ما يبرره - ويتم أحياناً على شكل ردة فعل فكلما تعرض لهجوم أفصح هو بالمقابل عن فكرة كان يجري التكتم عليها انتظاراً لمثل هذه الفرص. وعلى كلٍ وعلى أية حال, فإن الانصاف يقتضي تأييد هذه المراجعات والاحتفاء بها وتقديم الدعم المعنوي لأربابها والوقوف معهم مع ضرورة ألا يأنفوا من الاعتراف بالخطأ وألا يستثقلوا الاعتذار, لأنه كلما عظمت إمكانات النمو, وسمت عناصر الارتقاء لدى الشخص كان أكثر قدرة على إعلان الأوبة والتراجع عن مقارفة المحظور.

إن إشاعة النقد, وتلطيف مفرداته, وإحياء روح المفاتشة, وتنمية هذا النمط من السلوك وفي ظل أجواء حميمية بين الأتباع وشيوخهم, مطلب حري بصناع الخطاب الديني الإلحاح عليه, وتكثيف الدعاية له. وبما أن الداعية قدوة، فمن المفترض أن يتجرد من الكبرياء الذي يمنعه من تقبل النقد. إن الشعور المفرط بالأنفة لدى بعض الدعاة - وأقول البعض حتى لا نقع في شرَك التعميم - قد يكون محركاً جوهرياً لكثير من ردود أفعاله التي تضع على عقله لوناً من الغشاوة, وتولد لديه تبرماً حاداً من النقد, يعمل على التكتم عليه ويحاول أن يتظاهر بمظهر الذي لا يكترث بالنقد, وبمظهر الذي لا يأبه بقراءات الآخرين له, إنه يزيف حقيقة ما يكونه, طمعاً في البقاء كسلطة مرجعية للحقيقة! على نحو لا يليق بمن نذر نفسه للدعوة. إن الداعية المخلص يجب أن يكون مثالاً في التجرد من حظوظ النفس, والقدرة على تحييد مشاعره الخاصة, وتجاوز انفعالات الأنا والتعامل مع النقد ببحبوحة وبرحابة صدر, بل حتى ولو كان الناقد متزيداً أو مجافياً للعدل أو ينبعث من معايير غير صحيحة فينبغي استيعابه, وضرب أروع الأمثلة في التعاطي معه. إن صانع الخطاب الدعوي حينما يعاني من حساسية عالية, وتكون روحه المعنوية في أدنى درجاتها، فإنه سيتعاطى مع النقد على أنه هجوم شخصي, وسيحمل دلالاته أكبر مما تحتمل، ويفهمه بشكل مشوه, على نحو يحرمه من الاستفادة من النقد, وقد يسبب له أذى بالناقد يحمله على ردود أفعال غير متزنة. إن من الضروري أن يجنح الخطاب الديني إلى إشاعة نظرة إيجابية إلى مفهوم (التغيير) وأن التغير نحو الأسمى غاية بحد ذاته, وأن الذي لا يتغير مصاب بالجمود والتكلس العقلي وأنه أيضاً كما يوجد تغيير إيجابي فثمة تغيير متذبذب منفلت لا يعبر إلا عن نوع من الارتباك والاضطراب الشخصي. كما أن هذا الخطاب معني بتعزيز روح الاستقلالية لدى الطالب, وتربيته على النقد والمساءلة والاعتراض المهذب لا لذات الاعتراض - وتدريبه على تجاوز مشاعر الوجدان. والتأكيد على أن الاعتراض المدلل والنقد المستصحب لشرط تسويغه, إذا كان يتحرك ضمن الضوابط الأخلاقية, ويتم بآلية تحفظ للمنقود مكانته وتقدر ذاته وتحترم شخصه، فهو الذي يعود بالمردود الإيجابي على الأمة، ويحول دون نشوء ظاهرة الدكتاتورية الثقافية.

إن حفظ مقام الفعاليات الفكرية واحترام شخوصها مطلب, لكن ذلك لا يعني الانصهار في بوتقتها والذوبان المطلق في فكرها، بل يجب أن يتحلى المريد بروح تغربل الأقوال، وتفلتر المعطيات، وتنتخب منها وتدع. وكل ذلك يستند على خط متين من المعرفة والموضوعية النائية عن مشاعر الأنا وانفعالاتها.



Abdalla_2015@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد