إن أنصار الليبرالية الجديدة لا يفترضون أن الدولة لابد وأن تدار كما تدار الشركات فحسب، بل إنهم يزعمون أيضاً أن الدولة يتعين عليها أن تمتنع قدر الإمكان عن التدخل في الاقتصاد. وهم يصرون على أن السوق قادرة على تنظيم نفسها. ولكن منذ ما يزيد على الخمسين عاماً عارض بول سامويلسون الحائز على جائزة نوبل إسباغ هذا النوع من الكمال المثالي على الأسواق في تعبير تصويري حين قال: (إن منح الأسواق الحرية المطلقة من شأنه أن يؤدي إلى حصول كلب روكفلر على الحليب الذي يحتاج إليه طفل فقير، ليس بسبب فشل الأسواق، ولكن لأن خيرها يصب في أيدي هؤلاء الذين يدفعون لها).
إن هذه المعضلة في التوزيع تكمن في قلب النظام الرأسمالي، الذي يقوم على منافسة لا تنتهي تتغذى على الدافع إلى تحصيل القدر الأعظم من الربح. وفي مثل هذا العالم لا مكان للضمير الاجتماعي. وهنا يأتي دور الدولة، وهو الدور الذي يتفاوت في الحجم من مجتمع إلى آخر، في سد هذه الفجوة.
إن نظام اقتصاد السوق لا يفوقه أي نظام آخر في القدرة على خلق الثروات، ولكن التعويض الاجتماعي هو وحده القادر على ضمان توزيع هذه الثروات على نحو يتسم بالعدل. والحقيقة أن الأنظمة التي تتبنى اقتصاد السوق في أوروبا تنظر إلى مسألة تخفيف التفاوت الذي تولده الأسواق بين الناس باعتبارها واجباً أساسياً من واجبات الدولة، على العكس من النموذج الذي يطرحه الليبراليون الجدد الأنجلوسكسونيون.
ولا يستطيع نظام اقتصاد السوق أن يعمل بنجاح إلا بتدخل من الدولة. ولقد أظهرت لنا الأزمة المالية التي تعيشها الولايات المتحدة الآن ما قد يحدث حين نمنح الأسواق حكماً مطلقاً. فبدلاً من تنظيم أنفسهم، يعمل اللاعبون في السوق على تدمير أنفسهم، رغم كل ما يحظون به من إعجاب وتقدير.
لقد نجح القائمون على بنوك الاستثمار في تحويل أسواق البورصة إلى سيرك سريالي عجيب. فقد مارسوا فن المشي على الحبل حين أقرضوا الأموال بدون الاستعانة بشبكة أمان تخفف من سقوطهم إذا سقطوا. ولقد هددوا بالسقوط بالفعل - إلى أن تدخلت الدولة. ويحضرني هنا فيلم فيلّيني (الشارع)، الذي يحكي عن فناني السيرك الذين يعيشون على هامش المجتمع؛ وهو ما يساعدني في إبراز المفارقة العجيبة في (سيرك وال ستريت) حيث يعيش فنانوه كالآلهة ويحصدون الملايين.
لقد أصبح هذا من الماضي لبعض الوقت الآن. فقد انهار وال ستريت. والأزمة الحالية التي تجسدت في سقوط وال ستريت لا تقل وطأة بالنسبة لأنصار الليبرالية الجديدة عن سقوط سور برلين في العام 1989م بالنسبة للشيوعيين.
من العجيب أن البعد العالمي الذي اكتسبته هذه الأزمة يحمل أيضاً جانباً إيجابياً. فقد بات المجتمع الدولي الآن مهموماً بالتفكير في كيفية إعادة تنظيم القطاع المالي وتقليص عامل المجازفة في الكوارث المماثلة في المستقبل. حتى الآن كان القسم الأعظم من المشكلة يتلخص في عزوف الدول عن التعاون. ويبدو أن الأصوات التي كانت تنادي فيما سبق بتطبيق تنظيمات أشد صرامة تلاشت في الفضاء تحت وطأة المعارضة الشديدة من جانب القطاع المالي. ولكن إن لم نبادر إلى تغيير هذا الموقف الآن فمتى قد نتحرك؟
إن التحرك لابد وأن يبدأ في إطار اجتماع رؤساء دول وحكومات المجلس الأوروبي المقرر انعقاده في بروكسيل في منتصف شهر أكتوبر- تشرين الأول. ومن الأهمية بمكان أن يقبل الاتحاد الأوروبي التحدي المتمثل في الأزمة المالية على أعلى المستويات، وأن يرسم النتائج اللائقة، وأن يتبنى الخطوات المنطقية التالية.
ما هي إذاً الدروس التي يتعين علينا أن نتعلمها من فشل النموذج الاقتصادي الذي تبناه الليبراليون الجدد؟ يتعين علينا أولاً أن ندرك أن السوق تحتاج إلى قواعد واضحة. والتنظيمات الأقوى تعني وضع قواعد ومعايير ملزمة قانوناً وقابلة للتطبيق على المستوى العالمي. فبينما تخضع المناطق المهمة من السياسة الاقتصادية للقواعد التي تسمح بفرض عقوبات جزائية، فإن القطاع المالي يتمتع بوضع خاص لم يعد مقبولاً بعد الآن.
إن هذه المناطق من القطاع المالي التي تعرضت سمعتها لأشد الضرر هي في واقع الأمر الأقل خضوعاً للتنظيم والإشراف: سوق المشتقات المالية، وصناديق الوقاء، وصناديق الأسهم الخاصة، ووكالات التسعير. ومن الواضح أن الاستعانة بقواعد طوعية في حكم السلوكيات انتهت إلى الفشل الذريع. ونحن الآن في حاجة ماسة إلى تطبيق معايير تنظيمية قابلة للتطبيق على المستوى العالمي أشبه بالقواعد المعمول بها في منظمة التجارة العالمية على سبيل المثال.
إننا في حاجة إلى منظمة تمويل عالمية تتمتع بالشرعية الديمقراطية، ومجهزة بالأدوات التنظيمية الضرورية، بحيث يصبح بوسعها الإشراف على المؤسسات المالية العالمية الرئيسة. ومن الضروري أن تتمتع هذه المنظمة أيضاً بالسلطة اللازمة لخلق الظروف الملائمة لفرض قدر أعظم من الشفافية، والاستعانة بأنظمة إنذار مبكر أفضل والأدوات اللازمة لإدارة الأزمات بنجاح.
ليس من الضروري أن يتم تطبيق التنظيمات الجديدة على الجميع. ولكن تلك المؤسسات المالية التي تخضع نفسها لهذه التنظيمات فقط هي التي سيكون لها الحق في الاعتماد على الدعم من جانب السلطات العامة في حالة الأزمات. وهذا من شأنه أن يضمن كلاً من الاستقرار المالي والإبداع المالي - على النقيض من الموقف الحاضر، حيث لم يكن أحد يخضع لأي قواعد، وحين تفجرت الأزمة كان لزاماً على دافعي الضرائب أن يسارعوا إلى الإنقاذ.
ثانياً، لابد من تعزيز قوة مؤسسات الضمان الاجتماعي. فقد أوضحت هذه الأزمة أن توفير الاحتياجات الأساسية للناس لا ينبغي أن يعتمد على المضاربة وتقلبات سوق البورصة. وعلى هذا فإن التوسع في التمويل العام لمعاشات التقاعد والرعاية الطبية والتأمين الصحي يشكل عنصراً حاسماً في هذا السياق.
وأخيراً، يتعين علينا أن ندرك ضرورة إنشاء برنامج خاص لتحفيز الاقتصاد الأوروبي. إن الأزمة المالية التي تعيشها أسواق المال الدولية الآن كان لها أبلغ الأثر على الاقتصاد الأوروبي الحقيقي. حيث أشرفت بعض البلدان الضخمة في الاتحاد الأوروبي على الركود. لقد انتظرت اليابان في أوائل التسعينيات طويلاً قبل أن تبادر إلى العمل، فأهدرت بذلك الفرصة المواتية لتطبيق الإجراءات المضادة، ولهذا السبب لم تتمكن اليابان حتى الآن من استعادة عافيتها بعد هذه الفترة الطويلة من الركود.
إن الاستثمارات العامة في البنية الأساسية (مثل التوسع الضخم في إنشاء شبكة خطوط السكك الحديدية في أوروبا)، فضلاً عن حماية المناخ وتطبيق التقنيات الرحيمة بالبيئة، من الأمور المطلوبة بشدة. ولتعزيز القوة الشرائية وتحفيز الاستهلاك فلا مفر من تخفيض الضرائب على الأسر ذات الدخول المنخفضة والمتوسطة.
لا شك أن البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لابد وأن تكون قادرة على اتخاذ القرار بشأن الشكل الذي ينبغي على كل منها أن تتبناه من بين برامج الاستقرار الاقتصادي المختلفة. ولكن لا ينبغي لهذا أن يكون سبباً في منع الحكومات الأوروبية من العمل معاً في إطار من التعاون الوثيق. إذ إن نجاح أي برنامج لتحفيز الاقتصاد الأوروبي يتوقف على عمل الدول الأوروبية في انسجام واتفاق.
*المستشار الفيدرالي لدولة النمسا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت-معهد العلوم الإنسانية، 2008.
www.project-syndicate.org
خاص بـ(الجزيرة)