في أحد أيام الأسبوع الماضي بحثت سيدة أمريكية كريمة اسمها (ديبي) عن محفظة نقودها، وأخذت بعضاً من النقد الذي احتفظت به فيها، وركبت سيارتها ذاهبة إلى السوق لشراء بعض متطلباتها اليومية، وفي الطريق سمعت أن هناك أزمة مالية تعصف بالأسواق المالية العالمية، وأن هذه الأزمة أكبر مما يدور بخلدها، وأن القادم من الأيام قد يحمل أكثر مما هو حادث. فكّرت كثيراً فيما سمعت، وأسهبت في التفكير فدلها اجتهادها على أنه من الأفضل التخلي عن شراء بعض المتطلبات غير الملحة والاكتفاء بشراء ما هو ضروري، وإبقاء بعض مما لديها من نقود لمجهول قادم لا تعرف كنهه، وكان ما كان واشترت ما اشترت وعادت أدراجها إلى منزلها، وأخذت في متابعة الأخبار الاقتصادية وأحوال الأسواق المالية على شاشات التلفاز ثم غطت في نوم الوجل، وعندما بزغ نور الصباح أشرقت الشمس بأشعتها البيضاء التي لا يحول دون الاستمتاع بها سوى بعض قطع السحب المتناثرة هنا وهناك، حيث تحجب جمال تلك الشمس المشرقة التي اعتاد أبناء تلك البلاد الاستمتاع بها بخلافنا نحن أبناء العرب الذين نفرح بالجون عندما يتكاثف في السماء فيحجب أشعة الشمس، وكذا صوت الرعد، ولمعان البرق، وتساقط المطر، وهدير السيل، وانبثاق الينابيع، ورائحة الندى، فتزهو زهو المنتشي وترقص رقصة الطرب.
وفي طريقها لعملها ثنت سياراتها واتجهت إلى البنك الذي تتعامل معه، فاستقبلها أحد موظفيه بكل ترحاب، وقدمت له بلطف شيكاً باسمها لسحب مبلغ خمسين ألف دولار، هو كل ما استودعته في هذا البنك العريق الذي كانت تتعامل معه منذ عشر سنوات مضت. وعادت السيدة (ديبي) إلى منزلها ومعها مبلغ الخمسين ألف دولار، ووضعت المبلغ في مكان آمن في منزلها، ومثل (ديبي) فعل الآلاف بل مئات الألوف. وفي نفس اليوم ذهبت جارتها السيدة (مارجرت) إلى البنك الذي كانت تتعامل معه منذ أن كان عمرها واحداً وعشرين عاماً، وهي الآن تبلغ الخمسين من العمر، واستقبلها موظف البنك استقبالاً كريماً، وقدم لها فنجاناً من القهوة، أخذت في رشفه بتأن وتوّدة، ثم أشارت إلى موظف البنك بأن يحضر لها استمارة لتعبئتها لطلب قرض من المال لحاجتها إليه على أن يخصم ذلك من مرتباتها لثلاث سنوات قادمة طبقاً لما اعتادت عليه. وتململ الموظف وتمتم قبل أن يبلغها الحقيقة المرة بأن البنك ورغم تقديره لسنوات العلاقة المميزة معها لا يستطيع منحها قرضاً كهذا لأنه في الواقع لا يملك النقد الكافي للإقراض، فاستغربت (مارجرت) رد الموظف، غير أنه لا يجد بديلاً عما قال، كما أنها لن تجد بديلاً عن واقع الحال.
عادت السيدة (مارجرت) أدراجها حزينة لما حلّ بها، تفكر فيما تفعل، فوجدت أن الخيار الأمثل أو ربما الأوحد هو الصبر والرضا بالواقع، والاقتتات بما هو متاح وعدم التطلع إلى إنفاق يفوق الحاجة، وترتيب المصروفات مع معطيات الإنتاج. ومثل السيدة الكريمة (مارجرت) آلاف بل مئات الألوف. لقد عدلت (ديبي) عن الشراء واقتصدت في الإنفاق ومعها مئات الألوف ومثلها فعلت السيدة (مارجرت) ومعها مئات الألوف، فماذا بعد؟
استدعى المديرون التنفيذيون للشركات التي تبيع في الأسواق منتجاتها من الملابس ومواد التجميل، والفيتامينات، والزهور، والأجهزة الكهربائية وغيرها كثير، استدعوا كل مديري التسويق كلاً على حدة وسألوهم عن السبب الذي أدى إلى انخفاض المبيعات، فكان الجواب واحداً أن السيدة (ديبي) والسيدة مارجرت ومعهم مئات الألوف، قد أشاحوا بوجودهم عن منتجاتنا واقتصدوا في إنفاقهم وأصبحوا لا يشترون سوى ما هو ضروري جداً وأن حد الضرورة لديهم قد انخفض بدرجة كبيرة.
أخذ المديرون التنفيذيون هذه المعلومة بدرجة كبيرة من الاهتمام، وتدارسوا كل فيما يخصه السبل الكفيلة بالتعامل مع الواقع الجديد، فكان الخيار واحداً: تسريح عدد من العاملين في الشركة، وخفض الإنتاج. وبهذا القرار انخفض الإنتاج وربما انخفض هامش الربح لديها نظراً لعدم قدرة المستهلكين على دفع مبالغ كبيرة، وكذا خفض الإنتاج. ولهذه الأسباب انخفض مقدار الضرائب، فانخضفت إيرادات الدولة، وعليه فلا يمكنها التوسع في الصرف على البنية التحتية لاسيما أنه من العسير عليها الاقتراض نظراً لجفاف البنوك من النقود، وزاد عدد العاطلين عن العمل فزادت البطالة، فكشر الكساد عن أنيابه. لم يقف الوضع عند هذا الحد، فدول كثيرة تصدر للولايات المتحدة الأمريكية سلعاً وخدمات تشكل نسبة عالية من إجمالي إنتاجها الوطني، فلم يعد لتلك السلع مشترون فتأثرت بسريان هذا التيار الكهربائي المدمر، فماذا بعد؟ يمكن التوقع، غير أنه لا يمكن التأكيد، وهناك أكثر من سيناريو متاح، والله أعلم.