Al Jazirah NewsPaper Friday  10/10/2008 G Issue 13161
الجمعة 11 شوال 1429   العدد  13161
منتديات العري المخزي
د. عبدالله بن سعد العبيد

الغيبة والبهتان صفتان يجتمع فيهما تحدث شخص عن سلبيات شخص آخر أو أشخاص أو حتى مجتمع بأكمله، لكن ما يفرق بينهما أن الغيبة هي عندما ينقل شخص ما سلبيات شخص ثانٍ لثالث، وتكون تلك السلبيات بالفعل موجودة فيمن يدور الكلام عنه.

أما إذا لم تكن موجودة فيه أو فيهم أصلاً، فالصفة هنا تكون البهتان. وهذا لا خلاف فيه ومعظم القراء الكرام يعلمون حقيقة ذلك.

ويرهق الشخص الناقل نفسه حينما يقوم بفعل الغيبة الذي يعدُّ نقداً تهديمياً لمجرد التشهير، فيما الأدهى من هذا وذاك أن يأتي بهتاناً وزوراً غير موجود أصلاً في الأشخاص أو الشخص الذي يدور حوله ذلك النقد الهدام المؤدي إلى التشهير به ليس إلا، الأمر الذي يترتب عليه الكثير من الضرر والفساد والكثير من التخريب للفرد محل البهتان أو الغيبة أو للمجتمع بأسره.

ما دفعني حقيقةً للكتابة عن هذا الموضوع وجمع واقتباس بعض مما كتب عنه هو انتشارالمنتديات التي لا هَّم لأفرادها إلا أن يستغيبوا فلاناً ويبهتوا فلاناً، لا لشيء سوى لإرضاء نزعة همجية لا نفع لها إطلاقاً ولا أساس لها وتأخذ طابع التشهير بأمور هي أبعد ما تكون عن واقع النقد البناء. منتديات تسمح لمن كانت نفسه مريضة أن يستغيب ويبهت دون أن يكشف عن نفسه، يقبع خلف لوحة المفاتيح الخاصة بجهازه الحاسوبي ليقول ويكتب ما يشاء دون وازع ديني أو خُلقي. لقد وجد هذا المريض وغيره ضالتهم في التعبير عن مكنوناتهم المريضة خلف ستار واقٍ لا يتم مشاهدتهم من خلاله، فتبدأ ألسنتهم بنقد الآخر بصفات خلقها الله أو بصفات شخصية لا نفع من ذكرها إطلاقاً، كأن يقال فلان قصير القامة، وفلان فاسد وثرثار وأناني ومتعجرف ويأخذ من الدين حجة لتمرير ما شاء من مخالفات، وذلك كافر، وآخر جامي، وثالث عليه أن يحلق لحيته لأنه لا ينتمي إلى تيار معين، وآخر يجب أن يطلق لحيته لأنه ينتمي إلى تيار معين وهكذا.

إن تكرارالحديث والتشهير باستمرار مطلق عن الجرائم والفضائح في المجتمع، أو عن النقائص والمثالب في الأفراد من نتائجها الحتمية، أن يقل استفظاع الناس لها واستنكارهم إياها، بسبب ألفتهم لسماعها وبالتالي فإن المنكر يصبح معروفاً، ويصبح المعروف منكراً، ومن ثم تشيع الفاحشة في المجتمع، وتعم البلوى، وينتشر الداء، هذا على الصعيد العام. أما على الصعيد الخاص والشخصي، صعيد الأفراد، فإن إعتياد نهش الأعراض، وتتبع العورات، وتقصي الأخطاء والعيوب، ومن ثم إذاعتها واتخاذها مادة دسمة لتزجية الفراغ، يؤدي بالإنسان المتتبع المتقصي إلى نوع من الإدمان على ممارسة دور الذبابة، هذه الحشرة التي دأبها التنقل بين الخبائث المأكولة والمشمومة، لتقوم من بعد ذلك بتوزيع الأذى والقرف والمرض، ونشرها بالمجان حيثما ارتحلت أو حلت من أجسام الناس ومرافقهم العامة أو الخاصة.

ويخطئ من يظن أن وبال الغيبة لا يتضرر منه إلا المتناول عرضه المستباح فقط، وإنما وبال الغيبة يحيق بثلاثة أطراف معاً:

أولها المجتمع كما سبق وبينا. وثانيها الطرف الذي تقع عليه الغيبة كما هو متفق عليه. وثالثها الطرف الوالغ في الغيبة المستمرئ لها، ذلك لأن الذي يطلق لسانه في أعراض الآخرين، وأنيابه في لحومهم الميتة، إنما يهوش في نفسه نوازع الشر، ويستثير في أعماقه قابليات معينة يوظفها في الكره والحسد، والحقد والضغينة، بدلاً من أن يوظفها في الحب، والإيثار، والتسامح.

إن الإدمان على الغيبة لا يورث المغتاب إلا مزيداً من عواطف الغل والكيد والكراهية للآخرين، والمغتاب مخلوق أعمى البصر والبصيرة، وإن شئت فقل أعورهما لأنه لا يبصر في الآخرين إلا المثالب والمعايب وهو مخلوق سجن نفسه بين جدران التشاؤم السوداوية، وعصب عينيه بعصابة الأنانية واللؤم، فعاش كارهاً مكروهاً، نابذاً منبوذاً. وهل أقتل للإنسان العاقل من حالة كهذه الحالة التي يؤول إليها أمره؟!

على أنه قد يتبادر للذهن أنني أدعو - من حيث لا أقصد ولا أنتبه - إلى إغماض العين عن الأخطاء المحيقة، والفساد المستشري سواء في الأفراد أو المجتمع، وأدعو بالتالي إلى تجاهلها والسكوت عنها، وهذا السكوت والتجاهل فيه من الخطورة والضرر ما ليس يوجد مثله في الغيبة والفضح، معاذ الله، فأنا لست غافلاً عن مثل هذا المنزلق البليد، وإنما أردت أن أقول إنه لمن الخطأ الجسيم أن ننظر إلى الأشياء بعين واحدة فقط، وقد وهبنا الله تعالى عينين اثنتين، عيناً لترى القبح والثانية لترى الجمال، واحدة لتبصر الخطأ فتتحاشاه والثانية لتبصر الحق فتتبعه.

وإنه لا ضير أبداً من الغيبة (في الحدود المشروعة) للأفراد؛ إلا أنه من النافع جداً والضروري جداً أن نفتح عيننا الثانية على أوجه الخير ومواطن الصلاح التي لابد أنها موجودة - ولو بقدر - في طبائع هؤلاء الناس الذين نغتابهم؛ لأننا عندما نتحدث علناً عن بعض الإيجابيات الكائنة في سلوك الأفراد، كأن نحمد لفلان وفاءه، وللثاني جرأته في قول الحق، ولذاك أمانته في البيع وقناعته، ولهذا حفظه لحقوق الجوار، وهكذا، فإننا بهذا نشجع هؤلاء على مزيد من الفضيلة والسلوك الحسن، ونورطهم في الخير توريطاً، وأنعم به من توريط مباح وحميد. وإننا بهذا أيضاً نكون قد كافأنا المحسن على إحسانه ولم نسوِ بينه وبين المسيء الذي صمتنا عن الكثير من عيوبه حذر الوقوع في الحرام.

كما أننا بهذا الحديث العلني عن الإيجابيات، نكون قد روجنا في أوساط الناس عن إدراك ووعي، لكل خلق فاضل وسجية كريمة، وخصلة طيبة. وكما أن الفساد والشر قد ينتشران بالعدوى والإيحاء؛ فكذلك الخير والمعروف ينتشران بالعدوى النفسية والإيحاء، وما قيل على صعيد الأفراد يقال على صعيد المجتمعات. فنحن لا ضير علينا أبداً في أن نرفع عقيرتنا عالياً بالنقد والتجريح، وربما بالفضح أيضاً لكل ما نراه ونلمسه في دائرة المجتمع الكبرى من المخازي كالفوضى والتفريط بالحقوق العامة، والظلم، والبغي، والسرقات، وما إلى ذلك مما قد يكون موجوداً بالفعل في مجتمع ما، وذلك بقصد التنبيه إلى الانحراف، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، كما أنه لا ضير من رصد الألوان القاتمة السوداء في المجتمع والتحذير منها، كانتشار الفاحشة - مثلاً - وانعدام الوفاء، وتفشي الموبقات وضياع المروءات والأمانات، وضعف الضمائر، وغير ذلك مما هو طارئ على المجتمع أو مستفحل فيه.

الموقف الصحيح المفترض يتجلى في أننا عندما نرصد بقصد أو دون قصد في المجتمع تيارات العري المخزي الذي يذكرنا بالحياة البهيمية الأولى، وعندما نتابع بقرف مناظر الحشرات - أكرمكم الله - البشرية السارحة في بعض صفوف شبابنا الضائع الممسوخ، فإنه ليتوجب علينا في الوقت نفسه أن نرصد في المجتمع تيارات الهدى والإيمان، ونتابع بارتياح واستبشار مناظر الشباب المؤمنين، والفتيات المؤمنات المحتشمات، من اللواتي والذين يملؤون المعاهد والمساجد ونوادي العلم والثقافة، بأعدادهم الوفيرة، وبشخصياتهم القوية المتميزة، وبثباتهم على الحق رغم وعورة الطريق، وبإخلاصهم الذي لا شك فيه.

كما علينا عندما نطيل الحديث عن الأخلاق الضائعة، والمروءات المفقودة، والضمائر النخرة، ألا ننسى أنه ما يزال في المجتمع أصحاب أخلاق حميدة، ومروءات عتيدة، وضمائر حية. وهم من الكثرة بمكان ولله الحمد.

ولا يغرنا كثرة أهل الفساد وهم يطوقوننا من كل جانب، ويعومون فوق برك الحدائق، وإسفلت الشوارع، والأرصفة والمتنزهات، وعلى كراسي المقاهي الليلية والنهارية، بل علينا أن نذكر أن هذا الصنف من المخلوقات إنما يمثل الزبد الرابي، والزبد يظل طافياً أبداً ولا يغتر بالزبد إلا زبد مثله. وقد قال الله تعالى :{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ}، وقال سبحانه أيضاً:{قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}، فكيف إذا كان الطيب ما يزال كثرة مباركة، وهي الأمل المنشود، وعليها المعول في إصلاح العباد والبلاد بإذن الله.

فلنجرب، لنجرب إذاً هذا المسلك في رؤية الأشياء وفي التعامل معها، وثقوا بأننا إذا ما فعلنا، فإن أحداً منا أو من ناشئتنا لن يفترسه وهم، ولن يفت في عزيمته يأس، أو يثبط من همته عقد ضعف، وسيظل يحيا في أمل لا يداخله غفلة ولا غرور، وفي سعي دائب نحو غايته المثلى لا يدانيه قنوط ولا انطواء.



dr.aobaid@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد