وتمر السنين واحدة تلو الأخرى كحبات المسبحة في يد الذاكرين، ولكن ما زال الأمل الذي به نعيش ينبض في صدورنا ليدفع في أجسادنا دفء الحياة، ورغم سقوط أوراق الخريف وقرب عواصف الشتاء التي تعصف بالأغصان الغضة قبل الجافة، إلا أننا مازلنا في دفء أحضان الدنيا، نلعب ونلهو وأحياناً نتذكر أنه اقترب وقت الرحيل، وفوق المآذن وعقب كل نداء أسمع صدى في أعماقي يقول: |
يا من بدنياه انشغل |
وغره طول الأمل |
الموت يأتي بغتة |
فاحرص على خير العمل |
عشنا الطفولة كما أراد الله لنا أن تكون، ومع كل يوم يمر نزداد نمواً، حتى إذا استطاعت أرجلنا أن تحملنا ثم بلغنا سن الحلم أصبحنا دون أن ندري مسئولون عن أفعالنا، منا من تزود بقدر من العلم الذي زاد من نماء الفطرة في صدره، وآخرون عاشوا الجهالة بسوءاتها، وما أظلم الجهل وظلمه لصاحبه، دفعنا تعطشنا إلى المعرفة الغائبة إلى البحث عنها سواء لدى من يملكها أو المدعين، والتجربة والخطأ أدنى طرق التعلم، وهي القاسم المشترك بين الإنسان البدائي وما دونه من المستوى الفكري، لكننا سعينا إلى المعرفة فحسب، ويحسب لنا أننا سعينا، وإن لم نوفق إلى دروبها الصحيحة أو تعثرنا، فإننا قد فعلنا ما لم يفعله بعضنا واستسلم لبراثن الجهالة تنشب في عقله أظفارها، وبين الصحوة والغفلة انزلقت بعض الأقدام، لكن الله عز وجل يقيل العثرات، ونهضنا من كبواتنا وعدنا إلى الحياة من جديد، أقوى مما كنا بفضل من الله عز وجل ثم الإرادة القوية التي غرسها الله عز وجل تبث شعاع الأمل وتدفع في عروقنا الدماء. |
وبين الشباب والشيخوخة، يمر المرء بكثير من التجارب ويحصل الكثير من المعارف، منها النافع ومنها غير ذلك، والعاقل من يستطيع الإفادة من تجاربه وتجارب الآخرين، فالإفادة من تجارب الآخرين توفر على النفس المشقة والتكلفة غير المجدية وتجنب العاقل التكرار، ومن مأثور القول (الصديق الحق خير مرآة يرى فيها المرء عيوبه). |
ذات يوم كنت معاتباً لصديق وفي، فضاق صدري، فتلمست الصفاء مع نفسي وكان وقت الغروب، وعلى إحدى الروابي الكثيرة في وطني الحبيب، وقفت مشدوهاً لمنظر الغروب، والشمس هي أحد الكواكب المهمة في عالمنا المادي المعروف بمجرة درب التبانة، وحسب معلوماتنا فهي أقوى أتون ذري سلمي من صنع الخالق عز وجل، لتفيد منه الحياة على سطح الأرض، وربما في كواكب أو مواضع أخرى لا يعلمها إلا الخالق عز وجل، وتذكرت قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا}(13) سورة النبأ. |
وعند نزولي من فوق الرابية، فركت تحت قدمي كتلة رملية حسبتها صلبة، والتوت قدمي، فإذا بي ممداً فوق التراب، وما هي إلا لحظة أو دون ذلك بين وضعي واقفاً وساقطاً ممدداً، وتذكرت أنها لحظة أو دون ذلك بين الحياتين، الحياة الدنيا وحياة البرزخ كما ثبت في الكتاب والسنة. |
وبين الميلاد والموت تنحصر حياتنا الدنيا أو تحسب، ويحاسب عليها، وهي مجرد رحلة يبدأها الطفل صارخاً، وتنتهي بالعويل عليه من أهله ومحبيه، وقد تمر دون ذلك، وقد يكون الراحل قد أراح فيخرج من الدنيا مستريحاً وقد يكون غير ذلك. والشمس تشرق كل صباح وتغرب في المساء في ديمومة لا يعلم مداها إلا الله، وهو حال كل المخلوقات، وأعمارنا مثل الشموس تشرق في الحياة الدنيا بالميلاد وتغرب مرة واحدة فلا شروق لها ثانية في الحياة الدنيا، إلا أن إيماننا بأن الآخرة خير وأبقى يخفف من صدمة الفراق، وتذكرت أنه في لحظة ما وفي مكان ما ستغرب شمسي وأودع هذه الحياة تاركاً الكثير من الذكريات الحلوة وغير ذلك، فإذا كانت مستحسنة لدى البعض فليذكروني بخير ولا يحرموني دعواتهم لي بالرحمة والمغفرة، وإذا كانت دون ذلك فليغفروا لي ويسألوا الله عز وجل أن يتجاوز عن سيئاتهم وما رأوه من عملي سيئاً، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. وفكرت ملياً في مواجهة الحق وجهاً لوجه، وسألت نفسي هل تستحق هذه الحياة منا أن نغضب وتغلي الدماء في عروقنا إلى هذا الحد، ماذا أعددت لذلك اليوم، وهل كنت موفقاً في اختيار أصدقائي ورفقتي، هل أحسنت أم قصرت، وشعرت بالأسف الشديد على ما قصرت في حق نفسي بعد حقوق المولى عز وجل علي، أسأل الله أن يغفر لي ولكم وأن يختم لنا بالإحسان. |
واسترجعت شريط ما انقضى من العمر ومشاكل الورثة والطامعين، وما قد يخلفه المورث من تصرفات تبث الفرقة وتزرع الكراهية في قلوب الأشقاء وذوي القربى، وكيف يشتري المرء دنيا غيره بأخراه، إنه الخسران المبين، وتنازعتني الأفكار ولعبت بي الظنون، وشعرت بغصة في حلقي وألم يكاد يمزق الصدر، ودوت في أذني أصداء القارئ يتلو قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(12) سورة الحديد. |
فسعيت إلى صاحبي مبتسماً وكأن شيئاً لم يكن، ودقات قلبي تقول: (هل رحمنا من في الأرض ليرحمنا من في السماء). |