من المسلم به أن المجتمع اليوم أحوج ما يكون للدراسات والأبحاث العلمية حتى يتمكن من الدخول في سباق الوصول إلى أكبر قدر من المعرفة المستمدة من العلوم التي ينتظر منها في نهاية المطاف أن تكفل رفاهية الإنسان وراحته، وتضمن له حياة كريمة مليئة بالسعادة والأمن والرخاء. فكان لزاماً على جامعاتنا الانخراط في هذا المعترك التنافسي العالمي والصراع المحموم نحو صناعة وامتلاك المعرفة الضرورية للنمو والتقدم والرقي بالمجتمع.
ولا يختلف اثنان في اعتبار البحث العلمي ركيزة أساسية ودعامة محورية قامت عليها عظمة الأمم على مر التاريخ، فلو قمنا بإطلالة سريعة على الإمبراطوريات العظيمة التي حكمت العالم أو التي بلغت شأواً عظيماً في العلم والمعرفة، سنجد أنها ما كانت لتصل إلى أوج عطائها أو تحقق تلك الإنجازات العظيمة لولا سلطان العلم وامتلاكها للمعرفة الضرورية وفسحها المجال للابتكار والاختراع.
إن البحث العلمي بشكل عام يقوم على أساس طلب المعرفة وتقصيها والوصول إليها ثم السعي لصناعتها وتسخيرها للارتقاء بمستوى الإنسان الفكري والمعرفي والثقافي والحياتي، فقد تكون تلك المعرفة ابتكاراً جديداً أو أفكاراً تضع حلولاً لمشاكل المجتمع أو رؤى جديدة تسهم في تقدم المجتمع بإحداث إضافات أو تعديلات في ميادين العلوم المختلفة.
وكمحاولة لمعرفة سير البحث العلمي في المملكة العربية السعودية وآليات عمله لا مانع من الاطلاع على ما تقوم به جامعة الملك عبد العزيز بجدة في هذا المجال لاستنباط صورة ولو جزئية عن آلية عملها في مجال البحث العلمي، وهي مهمة مناطة بعمادة البحث العلمي التي تشرف على سير البحوث العلمية وتضع آليات دعمها وتقييمها وتقدم الاستشارات اللازمة لذلك، كما تقوم بإعداد خطة البحوث السنوية وتحدد الأولويات البحثية، وتسهر على تحكيمها وتقييمها واعتماد تقاريرها الفنية والمادية، كما تقوم عمادة البحث العلمي بالتنسيق مع مراكز البحوث بالجامعة ومتابعة نشاطها وتقييم أدائها، بالإضافة إلى الإشراف على إنشاء المجاميع البحثية وتنظيم آلية عملها، ثم إعداد الخطة الاستراتيجية للبحث العلمي بالجامعة والإشراف على تسجيل براءات الاختراع، وتنظيم حصول الباحثين على الجوائز السنوية للبحث العلمي المعتمد من الجامعة.
ومن الأمور التي ثثير الانتباه هو ذلك الدعم المادي والمعنوي الكبير الذي تخصصه الدولة لميدان البحث العلمي وهذا في حد ذاته يعطينا انطباعاً بأن الدولة تدرك أهمية البحث العلمي وتعمل من أجل الارتقاء به وتفعيله ودعم الباحثين وحفزهم وتشجيعهم وتسخير البيئة المناسبة ليتمكنوا من القيام بأبحاثهم ودراساتهم في وسط أكاديمي ملائم، وهذه واحدة من الأمور التي يمكن وضعها في خانة الإيجابيات، أما الأمر الآخر والذي يدعو إلى التفاؤل أيضا هو ذلك الدعم الذي تقدمه المؤسسات الأخرى، فعلى سبيل المثال نجد أن الشركة الوطنية للصناعات الأساسية (سابك) تدعم العديد من الأبحاث العلمية وإن كانت تضع لها شروطاً وآليات تخدم مصلحتها إلا أننا لو نظرنا إلى الإيجابيات التي تنتج عن مخرجات تلك البحوث سنجد أنها تخدم الاقتصاد بشكل عام وتعود بشكل إيجابي على التنمية الشاملة.. ونجد أيضاً أن مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية تدعم العديد من البرامج وتقدم العديد من المنح التي تخصص للبحوث العلمية سواءً التي يقوم بها أعضاء هيئة التدريس أو طلاب الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)، هذا بالإضافة إلى دعمها لبرامج خاصة بالعلوم الإنسانية والمشاريع البحثية التي تأتي بطلب من القطاع الحكومي أو الخاص وتعالج القضايا الملحة في المجتمع . ولو انتقلنا إلى الأبحاث المدعومة من الجامعة نفسها نجد أن الدعم يوجه للأبحاث التطبيقية التي تتبنى اتجاهات تلبي متطلبات الأمن القومي الشامل والتنمية المستدامة، بالإضافة إلى دعم الأبحاث التي تخدم القضايا الملحة و دعم حركة التأليف والترجمة ودعم الأبحاث الأكاديمية والمجموعات البحثية. وإذا قمنا بإطلالة قصيرة على القيم التي تعتمد عليها عمادة البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز نجد أن القائمين عليها وضعواً قيماً أساسية تمثلت في الرغبة في الوصول إلى التميز الإقليمي والتفاعل مع قضايا المجتمع الملحة دون التخلي عن المبادئ والقيم الإسلامية في البحث العلمي ، ثم تركيزها على التميز بالإتقان والإبداع في الآليات والمخرجات والعمل بروح الفريق الواحد وبث روح الانتماء للجامعة.
كان هذا نموذجاً لسير البحث العلمي في جامعة الملك عبد العزيز، وهو نموذج جيد إذا ما قورن بالعديد من النماذج في الجامعات العربية وإن كان الأمر لا يخلو من المعوقات نظراً لأن أغلب الباحثين هم من أعضاء هيئة التدريس فهم يمارسون البحث العلمي كعمل ثانوي ولا تتاح لهم فرصة التفرغ الكامل للبحث العلمي، ثم إن عدد الباحثين لا يتلاءم ومتطلبات العصر فجامعة الملك عبد العزيز مثلاً بحاجة إلى عدد أكبر من الباحثين سواء من الداخل أو من الخارج، وينبغي التركيز على اختيار نوعية الباحثين إذا ما أرادت الوصول إلى التميز الإقليمي الذي هو واحد من القيم التي تنشدها، وإن كان بعض الباحثين يعزف عن البحث العلمي مبرراً ذلك بعدم وجود البيئة البحثية غير مناسبة في الجامعات فإن هذا الأمر ينبغي أن يتم تجاوزه لأن الباحث يجب أن يعمل بما يتوفر له من إمكانيات وإن كانت متواضعة فهو بعمله في البحث العلمي سيكشف الكثير من السلبيات وسيساهم في تلافيها مستقبلاً ولا أعتقد أن الأمور المادية تشكل عائقاً فالدعم سيكون غير محدود سواء من الدولة أومن القطاع الخاص إذا ما رأت هذه الجهات أن العملية البحثية تسير بشكل جيد ، وأعتقد أن المعوق الرئيسي هو عدم وجود آلية تجبر الباحثين على الالتزام بالنشاط البحثي، لأن الباحث متى ما وجد صعوبات أو معوقات فإنه بلا شك سيعزف عن الاستمرار في البحث وسيجد المشجب الذي يعلقه عليه مبرراته وهو عدم وجود البيئة المناسبة للبحث العلمي ولذلك لابد من وجود أنظمة صارمة جدية خالية من التعقيد والبيروقراطية إذا ما أردنا الوصول إلى الجودة والإتقان في البحوث العلمية والدراسات، فالمعايير البحثية يجب أن تكون قوية ورسمية، كما أن المخرجات يجب أن تكون على درجة عالية من التقييم والتحكيم والدقة بحيث تعود بالنفع على المجتمع.
Jalalfarhi@yahoo.com