لا شك أن الشرق الأوسط من أشد مناطق الأزمات خطورة في العالم على الإطلاق. وهناك دوماً حرب قادمة، أو هجمة إرهابية، أو مبادرة سلام فاشلة حول المنعطف. وأكاد أزعم أن ركوب الأفعوانية في الملاهي أكثر تهدئة للنفس من النظر إلى السياسات السائدة في المنطقة.
ومع ذلك فإن الشرق الأوسط منطقة لم تتغير على الرغم من العدد الهائل من الصراعات التي شهدتها، وما زالت تعيش في حالة غريبة من الجمود. ولا أملك في هذا السياق إلا أن أتصور وجود علاقة متبادلة أساسية بين الافتقار إلى الديناميكية التنموية في أغلب مجتمعات الشرق الأوسط وميل المنطقة إلى التعرض للأزمات.
يشكل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين مثالاً حياً للطبيعة الجامدة التي تتسم بها هذه المنطقة ذات الأهمية الجغرافية السياسية العظمى، إذ إن ذلك الصراع يبدو وكأنه لا يتأثر على الإطلاق بأي نوع من الاضطرابات الدولية. فقد مر على الصراع الإمبراطورية العثمانية، ثم الاحتلال البريطاني، ثم تفكك المستعمرات، ثم الحرب الباردة، هذا فضلاً عن عدد كبير من الرؤساء الأمريكيين، بل وحتى المزيد من الوسطاء الدوليين، ومع ذلك فلم تتغير أبعاد الصراع، ولم يتبدل العجز عن التوصل إلى أي حل له.
بيد أن هذا الانطباع -رغم صحته قياساً على أحداث الماضي- قد يتبين لنا في المستقبل أنه كان مخادعاً، وذلك لأن اثنين من التوجهات العالمية الطاغية الجديدة سوف يفرضان على المنطقة قدراً من التغيير العميق الذي عجزت كل الأزمات السياسية والحروب السابقة عن إحداث مثيل له.
يتجسد التوجه الأول في العولمة، التي ستؤثر، ولو ببطء، على أجزاء متزايدة الضخامة من العالم العربية، بداية من الخليج العربي وبلدان النفط الواقعة عليه، على الصعيدين الاقتصادي والثقافي.
ومع تحول الثروة والنفوذ من الغرب إلى الشرق فلسوف تأتي ضغوط العولمة من الشرق على نحو متزايد. ففي المغرب على سبيل المثال، أدت استثمارات دول النفط العربية في البلاد بصورة واضحة إلى تصغير شأن وأهمية أوروبا.
والحقيقة أن التناقض المتأصل بين البنية الحاكمة العاجزة عن التأقلم مع التغيير من ناحية، والحداثة الاقتصادية من ناحية أخرى، وبين نفوذ التيار الديني والثقافي المحافظ من جانب، والتحولات الاجتماعية والأساسية من جانب آخر، لابد وأن يؤدي إلى تفاقم الاحتكاكات الحالية وجلب المزيد من الاحتكاكات إذا استمر العجز عن التوصل إلى حلول إيجابية لهذه التغييرات الجوهرية.
أما الميل الثاني فيتجسد في أزمة المناخ العالمي. فبعيداً عن تلك البلدان المهددة - سواء بصورة جزئية أو كلية - بارتفاع مستويات سطح البحر، فلسوف يؤثر الاحترار العالمي في المقام الأول على الأحزمة الصحراوية في المنطقة وعلى مددها غير الثابت من المياه. وبينما تدور الصراعات في الشرق الأوسط حول الأرض في المقام الأول، فإن الأمر يشتمل أيضاً على الموارد النادرة من المياه والتي تشكل ضرورة أساسية للبقاء.
إن النمو السكاني السريع، والزيادة الهائلة في استهلاك المياه نتيجة للنمو الصناعي والزراعي والسياحي، وارتفاع مستويات المعيشة في المنطقة، كل هذا من شأنه أن يضفي على قضية المياه أهمية عظمى فيما يتصل بالاستقرار السياسي في المنطقة أكثر من أي وقت مضى.
إن الاستجابات المعقولة لمثل هذه الأسئلة التي تشكل أهمية عظمى بالنسبة للشرق الأوسط لابد وأن تحمل طبيعة إقليمية. وينطبق نفس القول على الطلب المتزايد من الطاقة: رغم أن المنطقة في الأجمال تنعم بوفرة من موارد الطاقة، إلا أن التوزيع الجغرافي السياسي غير المتساوي لهذه الموارد يجعل من الضروري أن يقوم أي حل معقول لهذه المعضلة على التعاون.
لا شك أن حل الأزمات والصراعات السياسية يظل يشكل أولوية عظمى. ولكن لكي يتسنى إحلال السلام والاستقرار في المنطقة، فلابد وأن ندرك أن النمو السكاني السريع الذي تشهده المنطقة يتطلب الاستعانة بمنظور اقتصادي يجعل من مشاركة شعوب المنطقة -وأغلبها من الشباب- في العولمة أمراً ممكناً، على أن يتم ذلك على النحو الذي يحفظ لهذه الشعوب كرامتها ويحترم ثقافاتها وتاريخها.
إن بلدان الشرق الأوسط لن تتمكن فرادى من تحقيق هذه الغاية، وهنا تتضح أهمية التعاون الإقليمي. ومن هنا فقد يشكل سجل نجاح الاتحاد الأوروبي نموذجاً يكاد يكون مثالياً لتحذو المنطقة حذوه.
الحقيقة أن الشروط المسبقة للتعاون بين بلدان المنطقة - والذي قد يرقى إلى نوع من التكامل الجزئي بين المصالح المختلفة لهذه البلدان - تبدو أعظم تبشيراً بالنجاح مقارنة بما كانت عليه الأحوال في أوروبا الغربية في أوائل خمسينيات القرن العشرين. إذ إن أوروبا لا تتحدث لغة مشتركة، ولا تتمتع بالتجانس الديني والثقافي الذي يتسم به الشرق الأوسط.
كانت البداية بالنسبة لأوروبا على يد زعماء ملهمين مثل جان مونيه، وبعد ذلك جاء إنشاء مؤسسات جديدة مثل اتحاد الفحم والصلب. وفي الشرق الأوسط قد تبدأ عملية التكامل الإقليمي بالماء والطاقة. وبعد ذلك قد يأتي إنشاء سوق مشتركة للسلع والخدمات، فضلاً عن تبني نظام أمني إقليمي مشترك.
وهذا من شأنه في النهاية أن يمنح الشرق الأوسط - المنطقة التي تتسم بالفقر في النمو والثراء في الصراعات- هوية متميزة، وأن يجعل منها لاعباً أساسياً في الاقتصاد العالمي، فيصبح بوسعها بالتالي أن تهندس وتخطط لمستقبلها.
إن تجربة أوروبا، التي كانت ذات يوم قارة تسكنها الحروب، تبرهن على إمكانية تحقيق هذه الغاية. وتستطيع أوروبا أن تساعد الشرق الأوسط -وهي المنطقة المجاورة لها- على تحقيق هذه الغاية الإستراتيجية. والأداة اللازمة لذلك متوفرة بالفعل: وهي تتمثل في اتحاد البحر الأبيض المتوسط الجديد.
في كل الأحوال، يتعين علينا أن ندرك أن زمن الجمود في الشرق الأوسط أشرف على نهايته. وتتوقف النتائج المترتبة على هذا التطور، من حيث خيرها أو شرها، على قدرة المنطقة على حشد البصائر والقوى من أجل صياغة هذه العملية. والأمر يتطلب قدراً عظيماً من الخيال والبصيرة الثاقبة والمثابرة العملية. وهذا يعني ضرورة الاستعانة بشخص أو شخصيات عربية من أمثال جان مونيه.
* يوشكا فيشر كان وزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها أثناء الفترة من العام 1998 إلى العام 2005. وكان عضواً رائداً في حزب الخضر لمدة تقرب من العشرين عاماً، ولقد ساعد في تحويل هذه الحركة الاحتجاجية سابقاً إلى واحد من الأحزاب الحاكمة في ألمانيا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت/ معهد العلوم الإنسانية، 2008م.
(*) www.project-syndicate.org
خاص بالجزيرة