تقوم الدول والحضارات على بنية قيم متماسكة كالبنيان الشامخ في عقول مواطنيها والأتباع، وغالباً ما تتكفل السلطة بالحفاظ على كافة أشكالها في المجتمع من خلال ترسيخ متانة وقوة ترابط هذه القيم، وذلك من أجل بناء إيجابي لهيبة الدولة في عقول مواطنيها، ومن أجل انقيادهم لقيمة الطاعة وانصياعهم لأمر الدولة وأنظمتها المدنية.
والطاعة يتم الانقياد لها عفوياً كنتيجة لنجاحات تطبيق منظومة القيم والمبادئ التي بُنيت على أساسها الدولة.
كان سقوط الإقطاع الكنسي في الغرب نتيجة لانهيار القيم التي كانت تحكم من خلالها الكنيسة والإمبراطوريات المسيحية في أوروبا، وكان سبب تهافت تلك القيم اختلال تطبيقاتها عند طبقة الكهنة والملوك؛ فالفساد المالي وحكم الإقطاع وانتشار الفقر والجهل والعبودية أفقدت المواطن ثقته في نظام الطاعة المقدسة للحكم الكنسي في تلك الأزمنة؛ فسقط الحكم من خلال سلطة قيم الكنيسة؛ فكانت النتيجة خروج الناس عليها، وانتشار الفوضى بين الناس ثم جرأتهم في عدم الالتزام بقيمة الطاعة وعصيان القوانين والتشريعات السلطوية آنذاك، وأيضاً فشل السلطة في ذلك الوقت في إقناع الناس بأنهم ممثلون لله وقائمون بتدبير شؤونه على الأرض.
كان بيان الشك الذي أطلقه ديكارت إيذاناً ببدء زمن التحرير من قيم فقدت مصداقيتها وثقة المجتمع بها، لتبدأ مرحلة الفلسفة الغربية وبدء مرحلة جديدة مهدت لها فتوحات عقلانية كبرى لكوبرنيكس وغاليلو ونيوتن، وانتهت بإعلان القطيعة المعرفية مع هذه القيم.
ليبدأ العصر التجريبي وزمن النهضة الصناعية وانتصار قيم الحداثة والرأسمالية والليبرالية ومنطق العقد الاجتماعي، لكن هذه القيم ما لبثت أن فقدت مصداقيتها بعد قرنين من الزمان، وكان الاحتكار الكلي للطبقة البرجوازية لمآثر هذه القيم ولمعانيها وتطبيقاتها أحد أهم أسباب الثورة عليها، لتخرج معاول الهدم من قبل أيضاً فلاسفة غربيين أمثال ماركس ونيتشة، وتحدث هزة كبرى لقيم الحداثة بعد صعود تيارات النازية والفاشية والشيوعية المضادة لقيم الحداثة البرجوازية، والتي لم تنجح في إيجاد الحلول لمشاكل الفقر والبطالة والعدالة الاجتماعية، وكانت الحروب العالمية الأولى والثانية نتيجة لهذا السقوط القِيمي.. والتي كادت تعصف بأوروبا؛ لتنتهي الحروب، وتبدأ مرحلة المراجعة لتطبيقاتها، ويتم إعادة إنتاج قيم الحداثة من جديد، لكن بمنهجية ملتزمة نوعاً ما بالحفاظ على تماسكها من خلال الديموقراطية وأنظمة الضمان الاجتماعي، وقبل ذلك الالتزام بمبدأ المساوة تحت القانون، ودعم سلطة القضاء وفتح المجال للمجتمع لرفع قضاياه والمطالبة بحقوقه أمام الحكومات.
بينما يختلف تاريخ القيم في الشرق الإسلامي؛ فالقيم التي جاء بها الدين لم تسلم من محاولات التفكيك النقدي الفلسفي في العصر الحديث، ولم يخلُ تاريخها في القرون الوسطى من محاولات لمزجها بالقيم الفلسفية العقلانية، لكنها محاولات باءت بالفشل، ولم تنجح بسبب الجهد الجبار الذي قدمه علماء الأصول أمثال ابن تيمية وأبي حامد الغزالي، وهو ما جعل طابع دورة الدولة في تاريخ المسلمين متشابهاً ويتكرر غالباً بنفس الصور السابقة؛ فصعود هذه الدول وانهيارها مرتبطان بتطبيق كليات الإسلام وأصوله، وليس فقط من خلال الاكتفاء بالمظاهر الاحتفالية للسلوك الظاهري والطقوس الدينية.
وتتصف القيم الدينية التي يؤمن بها الناس ويتعبدون الله من خلالها باختلاف مرجعيتها الجذري عن أنساق قيم الحداثة الغربية، وتتمثل رفعة منزلتها عن ذلك في منطق وحدانية الله - عز وجل -، وفي علو مكانته في عقول الناس، والتي يتم اختزالها بصورة خارقة للعادة في مقولة القاعدة الشرعية الشهيرة: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
هذه الرؤية السامية للقيم تعمل كحصن كوني منيع ضد انهيار القيم الإسلامية أو تفكيكها ثم بنائها من جديد كما حصل للقيم الكنسية في عصور الإقطاع، فلو حدث مثلاً ولم تلتزم سلطة ما بقيم وكليات الدين، فإنها هي التي تكون معرضة للانهيار، وليس تلك القيم؛ فهذه الأصول والكليات تم ربطها بمنزلة رفيعة خارج منطق الدولة أو الحكومة أو السلطة الدينية والقضائية، ويمكن لأي مسلم بسيط أن يعطيك (السبب) لتدهور الأحوال الاجتماعية والاقتصادية بالبعد عن تطبيق الإسلام والعمل على تحقيق مقاصده.
تأتي خصوصية الإسلام من أن منزلة الإله - سبحانه وتعالى - ظلت عصية على محاولات يائسة لإنزالها في شخصية رجل الدين، أو في منح صك الوكالة له لتمثيل الله على الأرض ثم فرض سلطانه على رقاب الناس؛ وبالتالي احتكار كلمات الله - سبحانه وتعالى -، وإخضاع قيم ومبادئ الدين لاجتهادات البشر وغرائزهم، وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك محاولات من قبل بعض الفقهاء لاحتلال هذه المنزلة تحت ذريعة التوقيع عن رب العالمين أو باسم سلطان الله على أرضه، وذلك من أجل الانفراد بالوصاية على الناس، إلا أن هذه المحاولات لم تنجح في تأصيل هذا المبدأ في عقيدة المسلمين، وظلت رفعة مكانة العلماء والأمراء عند الناس مشروطة بمدى التزامهم بتطبيق كليات ومقاصد الدين السامية، والسبب التأكيد القرآني على أن المرجعية العليا تظل لله وللرسول إذا حدث وتنازعتم في شأن من شؤون الدين والدنيا. لهذا السبب لم يحدث انهيار فعلي للقيم في تاريخ المسلمين، لكن الذي يحصل عادة هو تراجع هيبة الدول بسبب الخروج عن تطبيقات كليات ومقاصد الدين في المجتمع، ثم الانفراد بمآثرها ومكاسبها الخاصة، وهو ما يفتح الباب لانهيار أخلاق الناس وسلوكياتهم، وللخروج والتمرد بسبب فقدان السلطة لمصداقيتها عند الناس، وفي قدرتها العملية على تحقيق مقاصد هذه القيم التي بُنيت على أساسها الدولة، ويظهر الخروج عادة في عدة أوجه يأتي على رأس قائمتها اللجوء إلى سلوك الجريمة والعنف ضد المجتمع، وانتشار السرقة وعدم احترام القضاء وتحدي أنظمة القانون بمختلف اتجاهاته.