يقول أحد الكتاب السياسيين الساخرين: الذاكرة المناسبة للسياسي هي التي تجعله يتذكر ما يريد وينسى ما يريد.. تذكرت هذه المقولة وأنا أشاهد حوارين تلفزيونيين لا يفصل بينهما سوى أيام لضيف واحد هو وكيل وزارة الخارجية للشؤون الدبلوماسية العامة في الولايات المتحدة الأمريكية جيمس جلاسمان، كان الحوار الأول مع العمة بيب أو (BBC) وكان الثاني مع قناة الجزيرة القطرية.
ما أثارني لم يكن حديث الضيف بقدر المسافة التي تفصل بين المحاورين ومدى تمكن كل منهما من أدواته فالأول كان مقدم البرنامج الشهير Hard Talk ستيفين ساكر والذي خلف المخضرم تيم سابستيان أما الثاني فكان الإعلامي عبد الرحيم فقراء من مكتب قناة الجزيرة الفضائية في الولايات المتحدة الأمريكية ومقدم برنامج من واشنطن، ويكمن إجمال وجهة النظر في الحوارين أن النسخة العربية منه كانت تمنح جلاسمان فرصة عرض وجهة نظره بينما تساعده أسئلة المحاور (فقراء) على تسليط الضوء على الجوانب المبهمة أو غير الواضحة فيها بينما كانت النسخة الإنجليزية تناقشه وتجادله وتكشف المتناقضات في وجهة النظر.. صحيح أن المحاور لم تكن متطابقة لكن إدارة الحوار كانت مختلفة فالفارق بين النسختين ترجم المسافة الفاصلة بين رؤية الإعلام الغربي ودوره في مقابل الدور الغائب للإعلام العربي مع ملاحظات عابرة عن جلوس مقدم البرنامج الإنجليزي الواثق ومقاطعته للضيف حين يشعر بأنه ابتعد عن إجابة السؤال أو تجاهله فيما اشرئب عنق الآخر منتظراً الضيف أن يتوقف عن كلامه حتى لو شط عن السؤال أو ابتعد أو بدا أنه يجيب على سؤال لم يطرح!
أوقع مقدم برنامج البي بي سي السيد جلاسمان وهو الإعلامي المحنك في فخ أقواله حين سأله أن الشعوب لا تتفهم ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من دور وخصوصاً تلك الشعوب التي تتطلع أمريكا إلى كسب عقول وقلوب أبنائها وأن التعاون والتفهم ما يزال مقتصراً على الحكومات فهل التسويق الجيد لا يعمل مع الأفكار السيئة.. لم يتردد موظف الخارجية الكبير والذي يضطلع بمجابهة الآراء السلبية بشأن الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم في نفي ما قاله المقدم وأن الولايات المتحدة تجد التعاون والتفهم لما تقوم به من الشعوب عدا فئات محدودة.. ففاجأه مقدم البرنامج بإحصائية حديثة تكشف أن الجزء الإيجابي من الصورة الذهنية عن أمريكا لدى مجموعة من دول العالم أهمها تلك الدول الإسلامية التي تتطلع أمريكا إلى تغيير صورتها النمطية عنها تتراوح من 10 إلى 20%.. رداً على تلك الإحصائية قال جلاسمان سبب هذه النسبة يعود إلى سوء الفهم الكبير من شعوب تلك الدول لما نقوم به.. ابتسم المقدم قائلاً: ألا ترى أنك بدأت تقتنع بما طرحته في البداية من ضعف التعاون الشعبي معكم وأن هذه النسب المتدنية تعكس مواجهتك لفشل كبير خاصة وأن ما يفترض بك عمله قد حدث نقيضه؟!
كان الحوار مليء بالأسئلة العميقة والاستفزازية التي تتولد من رحم الإجابات وتكشف عن مهارة كبيرة في استنطاق الضيف وإبراز تناقضات بعض الإجابات لتسخين الحوار.. أخيراً لا أود التقليل من أداء الزميل عبد الرحيم فقراء فقد قام بواجبه وأظنه من أفضل مقدمي البرامج العرب لكن المقارنة تكشف عن فجوة واسعة تفصل بيننا وبين القوم في غرب الأرض نتطلع إلى ردمها.