Al Jazirah NewsPaper Friday  03/10/2008 G Issue 13154
الجمعة 04 شوال 1429   العدد  13154
الضرورات البشرية
د. محمد بن سعد الشويعر

للنفس ضرورات فكرية، وضرورات غذائية، وضرورات تقوم العقيدة وتنميها، مثل ما أن الغذاء ضرورة تستقيم معه الصحة، فحياة الإنسان لا ينتظم منهجها على ما يرام، إلا بتوفر الضرورات، وإدراك أبعادها، والسير وفق ما تدعو إليه، فالفكر تهدأ به النفس والوجدان، والغذاء تتكامل به الصحة والحيوية، والعقيدة تتحقق بها السعادة، إن صحت، أو الشقاوة إن هي تخلخلت.

4فالضرورات جزء من سلامة المنهج، وتصويب الرأس، لأنها في البيئة الإسلامية، جاءت لسلامة النفس والمحافظة عليها، وإبعادها عما يضر بها، أو يؤثر في مجتمعها، ومن هنا اتفق العلماء على أن الضرورات خمس: الدين والعقل، والنفس والمال، والعرض، إلا أن السبكي والطوفي جعلاها ستاً، فجعلا العرض اثنين: العرض والنسل، أما شيخ الإسلام ابن تيمية فتوسع وقال: المصالح غير محصورة، أما الخمس فهي الأشهر، والحديث القدسي: (ابن آدم خلقتك لأجلي فلا تتعب وخلقت كل شيء لأجلك فلا تتعب) وأعداء الإسلام، يستغلون الجهلة من أبناء المجتمع الإسلامي والقاصرين علميا وفكريا، لينفثوا فيها سموهم، ويؤثروا في أفكارهم، ومن يبحث في دقائق الضرورات، ومصالحها ويتحقق من نتائجها، فإنه يرى الوقائع الفعلية، لمن يتعمق فيها، مما يقوي الفكر، وينير النظرة المتفحصة، كما تبرز النتائج الصحية من الغذاء: شرابا وأكلا، وأثر ذلك في سلامة البدن، من الآفات، بل ومن تقارير المختصين، ونصائح الأطباء، حتى أصبح الأمر من البديهيات. فمثلما حرمت الخمور والمخدرات، ومثلما مقت الإسلام الزنا والفواحش، فإن ذلك جاء لتنمية الفكر، وتحريك العامل المهم في اليقظة والتدبر.

وذلك لكي تتعرف هذه النفس على الخير، بما أعطاها الله، من إمعان الفكر، والإحساس المرهف؛ لأن الطيبات ما أبيحت إلا لمصلحة الإنسان وراحته أولاً، وبالراحة تدرك المنافع الكبيرة، وتعرف الحكمة التي كانت خلف كل تشريع من عند الله جلت قدرته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ}(172) سورة البقرة، فهو أعلم بما تحتاجه النفوس، ويفيد الأجسام، فأباح ما فيه نفع لعباده ليتقووا به على العبادة، وحرم ما فيه ضرر، بأمر محسوس لكي تنزجر النفوس قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}(160) سورة النساء. ومن يقرأ آيات الحلال والحرام الكثيرة، يدرك، فضل الله في التحليل وعقابه في التحريم لحكمة أرادها سبحانه.

فالله يوسع مجال المصالح وما وراءها من نفع وحكم، ويزيد سبحانه، في بسط النتائج - في كل زمان ومكان -، من واقع الاكتشافات والنتائج، ثم يوسع سبحانه آفاق العباد، لتقترب نظريات العلماء، وما انفتح أمامهم من أمور، إلى أذهان الناس، ومعهود بيئتهم، للانتفاع به كجزء من الضرورات البشرية، آخذا في دلالة الحديث الشريف: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها).

وهذا من أجل مخاطبة مدارك البشر، وما تتحمله عقولهم، والمحسوس من ضرورات حياتهم، امتثالا لأمره سبحانه: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(31) سورة الأعراف، وهذه الآية وأمثالها في القرآن والسنة، تعتبر قاعدة من الأمن الغذائي، وضرورة من ضرورات البشر في التعاون والتكافل، ليعين القادر، من لا يقدر، في أهم مطلب يزيل الأزمات الاقتصادية؛ لأن عقل الإنسان، كالصندوق المقفل، والولوج إليه، لا يتم إلا بطريق هذا القفل، ومن ثم معالجته بالمفتاح الملائم له، وعند نشوء أي أزمة، تمس واحدة من ضرورات البشر الكثيرة، فإن المعالجة المرتقبة، تتم بما يلامس الفئة الأضعف في المجتمع، بما يصفه علماء كل فن من حلول مطمئنة، ولا أشد على الإنسان، من ضرورة تقوم به: من طعام وشراب. فإذا كان العلماء، هم الحملة لمفتاح الحل، فإن الركيزة: ترتبط علاقة بالله سبحانه، من الجميع: تقوى واحتساب، ودعاء ورجاء ليكون ذلك معينا لما على العلماء من دور مهم، في حسن المأخذ، وسلامة الطوية، والصدق في أداء الأمانة والتبليغ، وهؤلاء هم العلماء، الذين يخشون الله، ويؤدون ما عليهم من دور، وينصحون في الأخذ والعطاء.

إذ خشيته سبحانه في العلم، تكون بمراقبته تعالى في المأخذ العلمي، وعدم الخروج عن المسار الذي أراده الله، مع تسخير العقل في التوجيه، والبدن في العمل والعطاء، قال جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(28) سورة فاطر, فالعلماء المراقبون لله، والحريصون على السير، وفق منهج شرعه، مهما كان نوع علمهم: شرعيا أو عربيا، أو طباشيريا في سبر أغوار الأبدان، أو غيرها من العلوم، التي تغوص في أعماق المعرفة، مهما كانت. هم الذين يخشون الله، ويراقبونه، في السر والعلن، ويسيرون، ويتفاعلون مع النفوس مخاطبة، وتوجيها وتعليما ونصحا، وأخذا باليد.

كل في ميدانه الشرعي والاجتماعي، مع بيان الضار ليتقى شره، والنافع المفيد ليؤخذ به، ألم يخبر صلى الله عليه وسلم، في ميدان البيع والشراء، عن هذه الحالة التي يجب فيها النصح والصدق: (البيعان إذا صدقا ونصحا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا ولم ينصحا، محقت بركة بيعهما) وتقاس الأعمال الأخرى على هذا.

ولذا فإن العلم مهما كان يجمع بين المصالح الدنيوية والدينية، بحسب النية والصدق، ولا يتعارض مع الشهرة في الحياة، وهي دعوة إسلامية في التعمق والفهم، وتوجيهات تنفع النفوس، لتعرف الضرورات المهمة، والتي توسع فيها ابن تيمية رحمه الله، إذ مبدأ الإسلام: الإخلاص في العمل، والأداء والتعاطف، كما في الحديث: (والنصح لكل مسلم).

لتتمكن العلاقة الدينية، في التفكر وسبر الأغوار، لأن لذة الإيمان، أن يجول هذا الفكر، في ملكوت السماوات والأرض، حتى تمتزج الأسباب بالمسببات، وفق مخط الإيمان، الذي أخبر عنه رسول الله، وحلاوته.

وإذا كان الفيلسوف الفرنسي: ديكارت، في نظرته التشاؤمية وتشكيكه، لفقدانه الإيمان الحقيقي، يقول: أنا أفكر إذا أنا موجود.. ويريد بذلك الخروج على آراء القدماء، وعدم الرضا بالاتباعية، والبحث عن طريق اليقين، بغير التلقين والتقليد، فإننا معاشر المسلمين، في مآخذنا الفكرية، ومواردنا المعرفية، نختلف عن ذلك المفهوم، عند ديكارت وغيره، بما يدعو لإشباع رغبات هذا الفكر، وإرضاء نوازعه في المأخذ والقناعة لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }(185) سورة الأعراف، تلك النظرة التي ترسخ العلاقة بين الخالق والمخلوق، وقد سبق إليها أبو الأنبياء إبراهيم الخليل، كما في سورة الأنعام (75) . وهذا ما رسخته شريعة الإسلام بمصدريها، حيث نجد مخاطبة العقل، والدعوة للتفكر، تحتل الصدارة وهذا أيضا سر من أسرار الضرورة البشرية التي تقود إلى تمكن الارتباط بالدين الصحيح لدى الطلاب، وأساتذة الكليات، في المجتمعات الإسلامية أولا، وسبيلا من الآخرين المرتبطين بالماديات، إلى معرفة الحقيقة، لمن أراد الله هدايته.

ففي العصر الحاضر لا نعدم رغبات ملحة من بعض مفكري الغرب والشرق، بعدما كثر الطعن على الإسلام، ومحاولة تشويه صورته حتى يباعدوا بين أبنائه، ومعرفة حقيقة دينهم، فيكون هذا من بعض المفكرين في الغرب، والمهتمين بالبحث عن الحقيقة لذات الحقيقة. يقول: عباس محمود العقاد - رحمه الله - في كتابه: عقائد المفكرين في القرن العشرين.

إن ظاهرة القرن العشرين، هي أن أكثر المفكرين فيه، يؤمنون بالله سبحانه، بعدما كانت الظاهرة، في القرن التاسع عشر: الإلحاد، عند المفكرين، أو عند أغلبهم، وما ذلك في نظري، إلا أن العلم بدأ يدرك حقيقة الدين، وضرورة الانطلاق من فكره، ومن شموله وإشباعه، متطلبات النفوس، وحاجات المجتمعات.

من ضعف الحال إلى ملك مصر:

قال التنوخي: حدث أبو الطيب بن الجنيد، قال: كان محمد الأخشيد، ينزل قديما بالقرب من منازلنا، ببغداد وكان رقيق الحال، ضعيفا جدا.. وكان على باب دويرته دكة، يجلس عليها دائما، ودابته مشدودة إلى جانبها، وهو يراعيها بالعلف والماء بنفسه.

وكان له رزق سلطاني يسير، يتأخر عنه أبدا، فلا يقبضه إلا في الأحايين، وكان شديد الاختلال، ظاهر الفقر، وكان له عدة بنات لا ذكر فيهن، فإذا اجتاز به يحيى بن زكريا، أو أحد أبنائه، يقوم واقفا، ويظهر التعبد لهم، ولا يزال واقفا، إلى أن يبتعدوا عنه وكنت ربما جلت إليه، فيأنس بي ويحدثني، ويشكو بثه، وما يقاسيه من كثرة العائلة، وضيق الحال، ويقول: ليت لي فيما رزقته من الولد، ذكر واحد، فكنت أتعزى به قليلا، ويخف بالرجاء له والسرور به، بعض كربي وهمي بهؤلاء البنات.

ثم وضرب الدهر من ضربه، وطال العهد بالأخشيد، وخرج في حملة البعوث إلى الشام، وأنسيناه، وترامت به الأحوال حتى بلغ أن يقلد مصر وأحمالها. حتى صار له من المكانة ما كان، مما هو مشهور، وكان من جيراننا الواسعي الأحوال، ممن يعرف الأخشيد على حاله الأولى، وما فيها من ضعف، فلما كان بعد سنين، عاد هذا الرجل، فحدثنا بحال الأخشيد واتساع ملكه، فقد رأيته غير الرجل الذي عرفته بالمكانة، فحين رآني قربني وأكرمني، ويسألني عن الجيران وأنا أخبره.

حتى قال مرة: الحمد لله الذي بيده الأمور، ما شاء فعل، ألست تذكر ما كنت فيه في بغداد، وما كنت ألاقي من الشدة والفقر، وتنغيص العيش، والهم بأولئك البنات، قلت: نعم. قال: والله لقد كنت أتمنى وأسأل الله أن يرزقني ابنا، فكلما اجتهدت في ذلك، جاءتني ابنة، حتى تكاملن عشرا. وكنت أتمنى دابة لركوبي لشدة شهوتي وغير ذلك من الأمنيات، ولكن لم يتيسر شيء. وبعد أن تكهلت، وعلت سني، وأنا على تلك الأحوال، فخرجت من بغداد، فابتدأ الإقبال يأتي، والإدبار ينصرف. فكان الله يرزقني في كل سنة ابنا ويقبض عني بنتا، حتى مات البنات كلهن، ونشأ لي هؤلاء البنون، وأومأ إلى بعضهم عنده، كأنهم الطواويس: حسنا وجمالا. وملكت من الخيول العتاق، والبراذين والبغال والحمير البلق، ما لم يملكه أحد مثلي، ولا اجتمع لأحد ما يقاربه، وأكثر من أن يحصى، وصار لغلمان غلماني، الكراع الكثير. مما يصعب حصره، لكثرته في الاصطبلات المتعددة - قدرها بعشرات الألوف -.

قال: ثم عدنا إلى المجلس، وقد أبهجني ما رأيت، وهو يحمد الله على تفضله، وإحسانه ولازمته، فما فارقته، حتى قضيت حوائجي ونفعني وأحسن إلي، وعدت إلى الشام مكرما. (الفرج بعد الشدة 3: 119- 123).



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد