Al Jazirah NewsPaper Friday  03/10/2008 G Issue 13154
الجمعة 04 شوال 1429   العدد  13154
نوازع
الغادة الاقتصادية
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

دعونا من الحديث عن الأندلس ومباهجه ومآسيه، وعبدالرحمن الأوسط وطرب، وولادة وابن زيدون، فذلك زمان قد مضى، وفردوس ضاع.

ولنتحدث اليوم عن أموال تضيع في أسواق تسمى أسواق المال، تحت مظلة تعرف بالاقتصاد، لكنها مظلة تتداخل معها السياسة والاجتماع، وطبائع النفس البشرية والتقنية والمحاسبة، وغيرها من العلوم.

قبل هذا الأسبوع كان حديث العالم بأسره عن ضرورة حرية السوق وعدم تدخل الدول فيه، وكنا نعلم طلابنا أن هناك أيدي خفية تعمل على توازن السوق لتحدد السعر وأن التدخل في سير هذا النظام يعتبر تشويهاً للسوق ولا يمكن قبوله، وأن على الدول أن تنأى بنفسها عن السوق لأنها أكبر المشوهين، وأخطر المفسدين، وأرغم البنك الدولي عدداً من الدول على تحرير اقتصادها إذا ما رغبت في الحصول على قروض منه.

يبدو أن تلك النظرية التي بني عليها اقتصاد كثير من الدول ودرسناها لأبنائنا وأنا أحد الدارسين لها والمعلمين لها في زمن مضى عندما كنت أستاذاً في الجامعة. يبدو أنها كانت رغم بهائها وحسنها غادة لعوب تحسن كيف تغري الرجال والنساء على حد سواء، وتجذبهم للوقوع في حبائلها فكثر عشاقها والمرتمين في أحضانها، وكان والدها والقائم عليها سامحة الله غائباً عن ردعها عن نزواتها وإغرائها وفتنتها، ففتنت أفراداً ومؤسسات وبنوكاً ودولاً، كلهم يطلب وصلها ونفحات روائحها. فنال بعض مبتغاه منها، واكتوى البعض بنارها ومات البعض الآخر بين يديها.

كانت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر الدول والأفراد والمؤسسات قرباً منها وتواصلاً معها فأصبحت زعيمة العالم في حرية السوق بلا منازع، وراق لها ذلك الوصال في الليل والنهار واستمتعت عبر عقود بهذا الوصل الممتع والسخاء الكثير، فارتفع إجمالي إنتاجها الوطني حتى وصل إلى أكثر من ثلث الإنتاج العالمي، لكن يبدو أن هذا الوصال الحميم قد اعتراه ما يعكر صفوه، فضعفت أداة الوصال مع مر السنين، وظهر على السطح منافسين أقوياء أدواتهم أكثر شدة، وأقوى جهداً، وأصبر على الجلاد، فبدأت تنكسر شوكة الولايات المتحدة الأمريكية في المجال الاقتصادي رويداً رويداً وانخفض إجمالي إنتاجها الوطني من إجمالي الإنتاج العالمي إلى ما يقرب من الربع فإجمالي إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية الآن نحو (14) تريليون دولار في الوقت الذي وصل إليه إجمالي الإنتاج العالمي إلى نحو من (50) تريليوناً وعلى الولايات المتحدة الأمريكية من الديون ما يقرب من (11) تريليون دولار، ولديها عجز تجاري يقارب (400) مليار دولار ومثله عجز في الميزانية.

الصين قادمة لا محالة وهي تسير رويداً رويداً لتكون أولا، وأذكر أنني عندما قدمت إليها سفيراً قبل نحو حجج سنوات كان معدل دخل الفرد بها (300) دولار والآن يصل إلى نحو (3500) دولار، وهي الآن تقرض الولايات المتحدة بأكثر من نصف تريليون، ولديها من العملات الصعبة نحو تريليون، وكانت الضغوط عليها هائلة لتحرير اقتصادها، ورفع الحكومة يدها عن السوق وكانت تأبى ذلك، وتتعامل مع واقعها، وتنفتح قليلاً قليلاً، مع بقاء عين الدولة رقيب، ويدها فاعلة غير مغلولة. ومع هذا فقد خطت خطوات هائلة في فترة وجيزة، وقربت من تلك الغادة بحذر ولكنها لم تسلمها مقاليد قلبها، وأدوات جسدها، فكانت تغشاها كل ما سنح لها اللقاء، وحسنت الرفادة، وطاب المجلس، وتبعد عنها في الوقت المناسب خشية الوقوع في فخاخها.

اليوم أفصحت الغادة عن مكنون نفسها، وأعلنت للعالم كله من خلال أقرب الناس إليها الولايات المتحدة الأمريكية، إنها رغم جمالها وبهائها وحسنها وحلاوتها لديها أنياب كاسرة، وأيدٍ باطشة، وقلب قاس لا يرحم.

وأصبح الناس ذات يوم وهي تهتك ستر حبيبها، وأرادت أن ترديه قتيلاً، ولكنه أخذ في المقاومة محاول الخلاص من نزواتها وبطشها وها هو يصارع الآن لعل وعسى. أسقطت نظرية السوق الحر بنك (ليمن برذرز) وأخذت في إسقاط الآخرين، لكن عشاقها انقلبوا عليها، وشوهوها ولكنهم لم يسقطوها قتيلة بعد لأنه لا بديل سواها فيما يظنون، أو ربما بقدر ما يعلمون.

في السابع عشر من شهر سبتمبر لهذا العام قدمت الحكومة الأمريكية (85) مليار دولار لمجموعة التأمين الكبيرة (أيه أي جي) وهذه خطوة شبه تأميمية، حيث ستملك الدولة نحو 80% من الشركة وهذه الخطوة تحدث لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أقدمت هولندا وبلجيكا ولكسمبورغ على تأميم مجموعة فورتيس المالية، كما أقدمت الحكومة البريطانية على تأميم أحد بنوكها هذه الإجراءات غير المسبوقة تعني مقاومة عشاق تلك الغادة الجميلة بعد تمردها عليهم، ورغبتهم في إيلامها مثلما آلمتهم، وبعد هذا كله طلب الرئيس الفرنسي ساركوزي مؤتمراً عالمياً لمناقشة كيفية التعامل مع هذه الغادة المتمردة لعل الله أن يأتي بالفرج على يد أحد علماء الاقتصاد فيضربها الضربة القاضية، أو يؤدبها بضرب غير مبرح حتى تعود إلى رشدها وإلا فالهجر أولى، والبقاء دون وصال مع الصبر على الفراق لحين وجود خليلة أخرى منصفة ليس لها أنياب كاسرة، ولا أيدي باطشة، فهل يا ترى يجد علماء من أبنائنا تلك الخليلة؟ وهل من منقب من المتخصصين في الاقتصاد الإسلامي يكون كفؤاً لطرح نظرية بديلة قابلة للتفعيل الحقيقي، وليست تنظيراً فقط، والجري وراء العواطف. الإسلام فيه كل ما يفيد البشرية غير أنه صندوق كنز يرفض أبناؤه فتحه وإلى أن نجد مفتاحاً فعلينا الانتظار، والله المستعان.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد