Al Jazirah NewsPaper Friday  03/10/2008 G Issue 13154
الجمعة 04 شوال 1429   العدد  13154
جائزة أمير السنة النبوية: تميز وإبداع.. وعالمية وتتويج من خادم الحرمين الشريفين
أ.د. سليمان بن عبدالله أبا الخيل

من أعظم نعم الله على بلاد الحرمين أن هيّأ لها قادة أوفياء، نذروا أنفسهم لخدمة دينهم، والارتقاء بأمتهم، ولا غرو فهذه دولة الإسلام، نشأت على رعاية الدين والعقيدة، وتأسست منذ اللقاء التأريخي بين الإمامين العظيمين الإمام محمد بن سعود، والإمام محمد بن عبدالوهاب على نصرة الكتاب والسنة، وتحكيمهما في شؤون الحياة، مع الأخذ بمعطيات التطور والنمو والارتقاء في توازن مدروس،

ووسطية تمثل الفهم الحقيقي لهذا الدين، ولذا فإن أي أمر يخدم هذين الأصلين، ويعيد المسلمين إليهما فإن القيادة تسعى لذلك بكل ما أوتيت من قوة، ويأتي في هذا الإطار الذي يعد جزءاً من سياسة المملكة العربية السعودية، وأساساً من ثوابتها تلك المبادرة الرائدة لأمير السنة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - وأمد في عمره على الطاعة والإيمان - التي تمثلت في الجائزة العالمية للسنة النبوية، بدأت انطلاقتها في دورتها الأولى، وهاهي في هذا العام المبارك تنهي دورتها الثالثة من عمرها المديد بإذن الله، واكتسبت بعداً عالمياً، وشهرة واسعة، ونجاحاً باهراً، وتميزاً في المضامين، واهتماماً كبيراً لا بين أبناء هذا الوطن فحسب بل في أرجاء المعمورة، وتخصيص هذه الجائزة العالمية للسنة له مؤشراته ودلالاته الخاصة والعامة، فهو ينبئ عن شخصية فذة محبة للسنة النبوية، مدركة لأهميتها في معالجة القضايا والنوازل والأحكام والمستجدات، مؤمنة بأن الأمن الفكري ينبني على التمسك بالمصدرين الأساسيين الكتاب والسنة، وفي المجال العام الأخذ بها، وفهمها، والتزام الهدي النبوي هو السبيل للسلامة من الفتن والمشكلات والأزمات، والبعد عن البدع والخرافات، والرد على أهل الشبهات الذين حادوا عن الصراط المستقيم، إذ تعد السنة النبوية المطهرة المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية، بل قد تكون المصدر الأول في كثير من الأحكام، والرسول- صلى الله عليه وسلم- أوتي القرآن والسنة معاً، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34)، وقال سبحانه: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2).

وقد ذكر الشافعي، ويحيى بن كثير، وقتادة، وغيرهم: أن المقصود ب(الحكمة) السنة؛ لأن ما يتلى في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إما القرآن وإما السنة.

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفينَّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم القرآن فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)(1)، وقد أخبر الله - عن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4).

وأمر باتباعه وطاعته فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7)، وقال: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النور: 54).

وحذرنا من مخالفته فقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63)

ولم يجعل لنا الخيرة أمام حكمه فقال سبحانه: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ( الأحزاب: 36).

وجعل ذلك من أصول الإيمان فقال تعالى:{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (النساء: 65).

وفرض على المؤمنين طاعته، لأنها من طاعة الله، فقال تعالى: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} (النساء: 80).

وهذه النصوص تبين منزلة السنة النبوية، وتظهر مكانتها في الدين، وأثرها في بيان الأحكام الشرعية، وتقطع دابر الشك في وجوب الأخذ بالسنة في الأدلة الشرعية، وعدها في المقام الثاني بعد القرآن؛ لمكانتها في نفس المؤمن، وتثبُّت المسلمين في نقلها بصورة لم يُعهد لها نظير في تاريخ الأديان، فقد بذلت جهود عظيمة وجبارة لتمييز الصحيح من غيره فيما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن السنة جاءت مفسرة ومبينة، وشارحة لكثير مما جاء في القرآن الكريم من أحكام مجملة، لا يمكن معرفتها إلا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس ما نزل إليهم من ربهم بيانا كاملا شاملا في دقيق أمورهم، وجليلها، وظاهرها، وخفيها، حتى علمهم ما يحتاجون إليه في مآكلهم، ومشاربهم ومناكحهم، وملابسهم، ومساكنهم، وما يحتاجون إليه في عبادة الله عز وجل، وما يحتاجون إليه في معاملة الخلق، وعلمهم كيف يتعاملون بينهم في البيع، وغير ذلك، حتى قال أبوذر رضي الله عنه: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً)(2).

وفي صحيح مسلم عن سلمان رضي الله عنه انه قيل له: (قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول)(3).

قال ابن القيم رحمه الله(4): (وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علما، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي والملائكة والجن والنار والجنة ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي عين، وعرفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى لهم، وما جرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرف نبي لأمته قبله، وعرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرف به نبي غيره، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده، اللهم إلا إلى من يبلغه إياه ويبينه ويوضح منه ما خفي عليه، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته لم يقم لها عدو أبداً، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها وما يتحرزون به من كيده ومكره وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة.

وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها؟ ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وفق الله له أصحاب نبيه الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عما سواه، وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر رضي الله عنه يمنع من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟ فالله المستعان.

وقد قال الله تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51). وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89). وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }(يونس: 57).

وكيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يفي هو وما تبينه السنة بعشر معشار الشريعة؟ أم كيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يستفاد منه اليقين في مسألة واحدة من مسائل معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله؟ أو عامتها ظواهر لفظية دلالتها موقوفة على انتفاء عشرة أمور لا يعلم انتفاؤها، سبحانك هذا بهتان عظيم؟

يا لله العجب! كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى الله بنيانها من القواعد، وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس والأوضاع؟

أكانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم بالله وأسمائه وصفاته، وما يجب له وما يمتنع عليه منهم؟ فو الله لأن يلقى الله عبده بكل ذنب ما خلا الإشراك خير من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل).

وهذا التقرير الرائع من هذا العلم العالم الفذ ابن القيم - رحمه الله - آثرت نقله لبيان أهمية السنة، ووجوب تقديمها على أقوال الناس، واعتمادها متى صحت، وهذا جزء من عقيدة المسلم، وهو تحقيق لشهادة أن محمداً رسول لله.

وقد بين الشافعي رحمه الله (5) أنه لن تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: 1).

وقال: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89).

وقسم رحمه الله: الأحكام إلى أقسام:

* الأول: ما أبانه الله لخلقه نصاً، كذكره لمجمل فرائضه: من الزكاة، والصلاة والحج، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحريم الزنا، والخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وبيان فرائض الوضوء.

* الثاني: ما جاء حكمه مجملاً، وبينه الرسول- صلى الله عليه وسلم- بسنته القولية، والفعلية، والتقريرية، كتفصيل مواقيت الصلاة، وعدد ركعاتها، وسائر أحكامها، وبيان مقادير الزكاة، وأوقاتها، والأموال التي تزكى، وبيان أحكام الصوم، ومناسك الحج، والذبائح والصيد، وما يؤكل ومالا يؤكل، وتفاصيل الأنكحة والبيوع والجنايات، مما وقع في القرآن مجملاً في القرآن.

وهو الذي يدخل في الآية الكريمة: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ( النحل: 44).

* الثالث: ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص حكم بالقرآن، حيث فرض الله في كتابه طاعة رسوله، والانتهاء إلى حكمه في قوله: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} ( المائدة: 92)، وقوله: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}(النساء: 80)، فمن قبل هذه السنة امتثل أمر الله جل جلاله.

وقد تعرض ابن القيم رحمه الله في بيان وجوب اتباع السنة ولو كانت زائدة على ما في القرآن إلى مثل هذا التقسيم فقال(6): (والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:

- أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه؛ فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها.

- الثاني: أن تكون بياناً لما أريد بالقرآن وتفسيراً له.

- الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه.

ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها زائداً على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم: تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديماً لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وأنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال الله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} ( النساء: 80)، وكيف يمكن أحد من أهل العلم ألا يقبل حديثاً زائداً على كتاب الله؛ فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها(7)، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب؟)(8).

وعلى هذا فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثروة خصبة في بيان مجمل القرآن، وتخصيص عامه، وتقييد مطلقه، وتشريع أحكام لم يأت لها نص في القرآن، وهي مادة غزيرة تغذي مقاصد الإسلام، وتنمي أحكام شريعته، ومن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله عز وجل قبل؛ لأن الله فرض طاعة رسوله، ولا يحل لمسلم عَلِمَ ما في الكتاب أو السنة أن يخالف واحداً منهما.

وبهذا ندرك أن الحرص على إظهار السنة، وحفظها وحمايتها من التغيير والتبديل، وحفز الهمم على الاهتداء بما فيها من حكم وأحكام، ومقاصد ومعانٍ يعد من حفظ الشريعة، ونصرها، ومن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يظهر ما حبى الله به أمير السنة، وما وفقه إليه من عمل جبار، لا يمكن أن يقادر قدره، ونحتسب على الله جل وعلا أن يكون أميرنا المبارك أمير السنة ممن يحيون السنة النبوية، ويعملون على نشرها، وأن يكون يوم القيامة ممن يرزقون شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويردون حوضه لقاء ما يقوم به من هذه الأعمال الجليلة المباركة، وحقاً فإن هذه هي النصرة التي يكون لها أثرها الفاعل لمواجهة خصوم الإسلام، والذين وقعوا في عرض المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقد سبق لي حينما شرفنا صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز في مناسبة من مناسبات جامعتنا المباركة، ألا وهي افتتاح ندوة ترجمة السنة والسيرة النبوية التي تنظمها الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها أن ذكرت أن هذه الجهود المتتابعة من سموه الكريم واهتمامه البالغ بالسنة النبوية، وأعماله العظيمة المعبرة عن شخصية فذة، وعبقرية نادرة، وهي كثيرة وكبيرة على قدر علو همة هذا الرجل المبارك تجعلنا نطلق عليه لقباً يستحقه بجدارة، وهو أنه أمير السنة، وذلك تأسياً بالسلف الصالح، حينما أطلقوا لقب أمير المؤمنين في الحديث على أئمة أعلام، لدورهم البارز في الحرص على جمع السنة والإكثار من روايتها، والعمل على نشرها، ومنهم الإمامان: الثوري، وأبو عبد الله البخاري - رحمهما الله -.

والمتأمل لهذه الجائزة العالمية يلحظ أمراً تتميز به عن كثير من الجوائز، فهي الفريدة في هذا المجال المتعلق بالسنة النبوية، وفيها من الشمولية وتنوع المستويات ما هو مثار إعجاب كل مسلم، فتشمل البحث العلمي الذي يعنى بموضوعات غاية في الأهمية مرتبطة بالسنة النبوية، وتشمل تكريم العلماء العاملين في مجال نشر السنة المطهرة وخدمتها، وتشمل تشجيع الطلبة والطالبات على حفظ السنة وتدارسها، كما وأن إطار نشاط الجائزة يشمل نشاطات متنوعة دائمة من محاضرات وحلقات بحث، وكل ذلك يصب في خدمة السنة النبوية.

ومن التوفيق في شأنها اختيار موضوعها، ومجالها ومكانها، فموضوعها سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأعظم به من موضوع، وأكرم به من مجال، ولذلك ارتبط مكانها بمهاجر صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ومن اللافت في شأنها التطور السريع الذي بارك مسيرتها، فعلى الرغم من أنها في دورتها الثالثة إلا أنها تطورت تطوراً مذهلاً، وأثبتت جدارتها، وانتشار صيتها وسمعتها، فمن جائزة واحدة إلى ثلاث جوائز هي:

1- جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز العالمية للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة.

2- جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز التقديرية لخدمة السنة النبوية.

3- مسابقة الأمير نايف بن عبد العزيز لحفظ الحديث النبوي.

ولضمان الاستمرارية في هذه الرائعة من روائع أمير السنة أوقف سموه قطعة أرض من أملاكه الخاصة؟ ليبنى عليها فندق يخصص ريعه في شكل جائزة سنوية تمنح للذين يقومون بإحياء السنة النبوية المطهرة تحت مسمى: (وقف جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة).

- وفي احتفال هذا العام الذي أقيم في العشرين من هذا الشهر المبارك شهر رمضان للجائزة في دورتها الثالثة سجلت الجائزة أبعاداً هامة تضاف إلى تميزها الذي ثبت في دورتيها السابقتين، فمن أهم الأبعاد: البعد العالمي الذي أظهره اختيار الفائزين من عدد من الدول، وهذا يؤكد تجاوز هذه الجائزة الحدود الوطنية لتخاطب العالم كله كما هو شأن الإسلام ورسالته العالمية، فالسنة النبوية حل عاجل لمشكلات العالم الذي يحفل بالكثير من التحديات والاضطرابات والتحولات، وتعدد الشعارات مما يحتم على المسلمين العودة إلى المصادر الأصلية لاستقاء الحلول، ولغة العصر اليوم لغة البحث والعلم، فإذا بني البحث على هذا النبع الصافي، واتجه علماء المسلمين إلى هذه الكنوز النبوية أثمرت جهودهم حلولاً عملية فاعلة في مواجهة كل مشكلة.

ومن الأبعاد المهمة: تلك الموضوعات التي اختيرت بعناية، وشكلت معالجات مهمة على ضوء السنة، وأوجدت تنافساً كبيراً بين الباحثين، وأظهرت ما قد يخفى على بعضهم من أن السنة النبوية حفلت بكل ما يحتاجه الناس في حياتهم، وعالجت ما يعانونه من مشكلات كبرى على مستوى الأمة ومستوى الفرد، فمشكلة المبادىء المنحرفة التي أفرزت الإرهاب والتكفير، وموضوع التجديد الديني ضوابطه وآثاره، والتعامل مع غير المسلمين، وفي جانب السيرة مصادرها بين المؤرخين والمحدثين، وما كان في الدورات السابقة من موضوعات تمثلت في العناية بحقوق الإنسان، وفقه الحوار مع المخالف، ومنهج الدعوة في ضوء الواقع المعاصر، وغيرها من الموضوعات التي تشكل في مجملها أهدافاً سامية، وانجازات عظيمة، تربط الأمة بمصادر عزتها، وتذكي روح التنافس بين العلماء وطلاب العلم وشباب الأمة للعناية بالسنة النبوية عناية فائقة، حفظاً وتدبراً واستنباطاً واستنتاجاً، وتأملاً وفهماً عميقاً يكون له الأثر الفاعل في التطبيق العملي والسلوكي الذي يعيد الأمة إلى ما كان عليه السلف الصالح حين اعتنوا بالسنة، وأخذوها بهذا التصور الشمولي، فصار تطبيقهم لهذا الدين منطلقاً من الميزة العظمى ألا وهي وسطية هذا الدين، من غير إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء، ولا انحراف عن الطريق المستقيم، فيكفي أمير السنة فخراً هذا العطاء الذي يحفظ سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويربط الأجيال الحاضرة والمستقبلة بها، ويستثير كوامن الإبداع ويستثمر الطاقات لترتقي الأمة إلى مكانتها في الصدارة والريادة، ونرجو الله أن يدخل فيمن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجة والترمذي وحسنه من حديث عمرو بن عوف المزني: (من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس كان له مثل أجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئاً).ومن حديث أنس رضي الله عنه الذي أخرجه الترمذي وحسنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة).

ويأتي تتويجاً لهذه الأعمال المباركة والجهود الخيرة، والعمل الدؤوب في هذه الجائزة العالمية في دورتها الثالثة اللقاء المبارك مع إمام المسلمين، وخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - أيده الله -، والذي استقبل رئيس وأعضاء الهيئة العليا للجائزة وأعضاء اللجنة العلمية ورؤساء اللجان وضيوف الجائزة والفائزين بها لهذا العام، وتشرفوا بلقائه والسلام عليه - أيده الله - في مكة المكرمة، وكانت منه - حفظه الله - تلك الدرر التي ارتجلها، وأبدى فيها ما يحمله قائد الأمة من هموم ومشاعر وآمال تجاه الواقع المعاصر، استهلها بالتحية والترحيب بالحضور بمشاعر الأخوة الإسلامية، مذكراً بدلالات هذه الأخوة التي تضمنها هذا الدين قائلاً - حفظه الله - (الإسلام الذي هو دين العقيدة والإيمان، دين الحق ودين العدل، دين الإنصاف، دين الوفاء).

معانٍ عظيمة، ودلالات بارزة، وخصائص وميزات لدين الإسلام يوجهها خادم الحرمين كرسائل غير مباشرة، ثم يأتي حديث التفاؤل الذي هو جزء من عقيدة المؤمن بحفظ هذا الدين، وبقائه وبلوغه الآفاق، مصداقا لما أخبر به النبي صلى الله عليه ولم يتجاوز به خادم الحرمين تعقيدات الواقع المعاصر وأزمات الأمة الإسلامية، والنوازل التي تحل بها إلى فضاء يعد هو الوعد الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الحقيقة التي يصدقها الواقع بأن الإسلام أكثر الأديان تابعاً، ولكن هذه الحقائق تحملنا مزيداً من المسؤوليات، فلا يكفينا التفاخر دون عمل، ولا التكاثر دون تحقيق لسمات المسلم الحق، والمسؤولية مشتركة، (التكاتف فيما بيننا واجب على كل مسلم، واجب علينا خدمة هذا الدين، واجب علينا خدمة الإسلام والمسلمين في كل أنحاء العالم).

الله أكبر، ما أجمله من حديث، وما أروعه من بيان بعيد عن الصنعة والتكلف، يشرح الصدور، ويسر الخواطر، ويذكر بالواجب على كل مسلم، وهذا الواجب يتضاعف في ظل الاخطار التي تحدق بأمة الإسلام، والأفعال الشائنة والمبادئ المنحرفة، والشوائب التي دنست صورة الإسلام، ويؤسف أنها من أبناء المسلمين، يقول خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - ( يا إخوان، أقول: ان الصحيح ان الإسلام دنسوه مع الأسف أبناء الإسلام، مع الأسف مع الأسف والإسلام منه براء)، كلمات تفيض حرقة وألما لواقع شباب لمسلمين الذين ظنوا أنهم ينصرون الإسلام، وهم على عكس ذلك يقدمونها خدمة لأعداء الإسلام، ويجندون أنفسهم معاول لهدم الدين والدين من تصرفاتهم وأفعالهم براء، فلا يعيبه ما يضاف إليه، لأنه من عند الله، أنزله الله وشرعه صالحاً مصلحاً لكل زمان ومكان وأمة، ومن أسباب تصفية الإسلام من هذه الشوائب ما تحمله المشاركون وقاموا به من جهد مبارك قدّر لهم عبر هذه الجائزة المتميزة، التي أوصلتهم إلى شرف اللقاء بملك عربي مسلم، يحمل هذا الهم العظيم، وينطلق من رؤية ثاقبة للتفاعل مع قضايا الإسلام والمسلمين، ويسدي نصحه وتوجيهه، ويحيطهم برعايته لهذه المناسبة وغيرها، ويحلون بها ضيوفا أعزاء في بلد مضياف كريم، لا يقدم واجب الضيافة فحسب، بل يسخر الامكانات والمقدرات لكل ما من شأنه نصرة الإسلام، ورفع شأن المسلمين وهذه المشاركات المتميزة نهج درج عليه أئمة وملوك هذه الدولة المباركة، وخصوصاً أبناء المغفور له الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - فهم يدينون لله بخدمة هذا الدين، ويرون أن هذا شرف مكنهم الله منه، وأن ما تنعم به هذه البلاد الطاهرة ما هو إلا نتيجة لهذه الأعمال الجليلة، ولذا فهي تقدم لكل مسلم فوق كل أرض وتحت كل سماء بلا منة ولا أذى، وهذا ما أبانه خادم الحرمين الشريفين، وعبر عنه بألفاظ تكتب بماء الذهب، ويحملها المشاركون وساما يفخرون به، ويدركون به رسالة المملكة وما تقوم به تجاه الإسلام والمسلمين ويعلمون به سر الاصطفاء والاختيار الذي مكن الله به هذه الدولة من القيام على الحرمين الشريفين، وخدمة قاصديهما، حيث يقول - أعزه الله - : ونحن ما عملنا شيئا أبدا أبدا، من المغفور له الملك عبدالعزيز حتى أبنائه، ما عملنا إلا كله بتوجيه الرب عز وجل، وكله لرضا الرب عز وجل، وكله بتوفيق الرب عز وجل، وكله من كرم الله، ومن كرم العزيز الجبار، هذا الذي أنتم تشوفون، هذا الذي بمكة المكرمة، والمدينة المنورة، كلها ما لنا فيها فضل، ما لنا فيها فضل، مالنا فيها فضل، الفضل للرب عز وجل.

الله أكبر، ماذا سيجول في خاطر من تشرفوا بهذه المناسبة، وهم يستمعون لهذه العبارات التي تخرج من القلب، ويعلوها الوقار والإجلال لله، والاعتراف بفضله، والاعتماد عليه والتبرؤ من الحول والقوة، وفي الجانب الآخر تشعر بالحفاوة البالغة، والتقدير لمن خدموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

حقاً ان مثل هذه اللحظات التي اجتمع فيها حسن الجوار، وروحانية الزمان، وقدسية الزمان، وشرف المناسبة، وسمو الهدف، وأبوة القائد، وكرم الضيافة العربية الأصيل، وتميز المشاركين، كل ذلك مما يضاف إلى السجل الخالد، ويسطر بأحرف من نور لملك الإنسانية الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله وأمد في عمره على الطاعة -، ويمنح هذه الجائزة العالمية مزيداً من التألق والإبداع، فالحمد لله الذي وفق أمير السنة لهذا العمل الرشيد، والنهج السديد، والحمد لله على نعمة الولاية التي تبرك كل عمل يخدم الإسلام والمسلمين، والحدث أعلى مما وصفت، والمناسبة تضيق العبارات بوصف المشاعر تجاهها، ولكنها كلمات محب لدينه ولوطنه، أحببت أن أكتبها تقديراً لهذه الجهود العظيمة، نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزل الأجر والمثوبة لخادم الحرمين الشريفين، ولسمو ولي عهده الأمين، ولسمو الأمير نايف بن عبدالعزيز لقاء هذه الأعمال الجليلة، وما قاموا ويقومون به لخدمة الإسلام والمسلمين، وأن يجعل ذلك رفعة في درجاتهم، وبركة في أموالهم وأعمارهم، ونسأله أن يحفظهم ويبقيهم ذخراً وفخراً وعزاً للإسلام والمسلمين.

****

الهوامش:

1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم: 5، 4604-010

2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5-153

3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم: (262)، 1-223

4) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين 4-375-377

(5) انظر: الرسالة، ص85-105

(6) إعلام الموقعين عن رب العالمين 2-307 - 308

(7) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب (وأن تجمعوا بين الأختين) برقم: (46، 45) 7-22، ومسلم في صحيحه كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، برقم: (1408) 2-1028

(8) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) برقم (47) 7-17، ومسلم في صحيحه كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، برقم: (1444) 2-1068

* مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد