الحزن عميق والحروف خجلى والكلمات متبعثرة .. من أين أبدأ يا أبي وكل ما فيك محامد؟ من حيث أنا وأفضالك عليّ بعد الله أم من حيث إخوتي وفضائلك عليهم بعد الله، أم من حيث والديك وتعاملك الرحيم معهم، أم من حيث تلاميذك وتعليمك لهم، أم من جيرانك ولطفك معهم.
حياتك تقى وزهد ومماتك شرف وعز , حفظت الله حيث كنت فحفظك الله حتى توفاك, عرفك الناس حياً فألِفوك عالماً ورعاً تقياً لطيفاً سمحاً رضياً فأشربوا حبك، حتى إذا ما أفجعهم خبر وفاتك حضروا شهوداً يبكون مودعين داعين، في مشهد اختلط فيه شعور الغبطة بشعور الحزن، فتاه الدمع بين الفرح لك والحزن عليك .. جموع شتى حضرت كأنما تحتفل بك فإلى جنة الفردوس الأعلى يا أبي ..
إنك اليوم وإن تواريت عن أنظارنا، فما زلت معنا في كل لحظة من لحظات حياتنا. فغراسك فينا ما زالت حية طرية ومعانيك العطرة فوّاحة زكية.
لقد كنت شيخنا ومعلمنا نتعلّم منك ديننا وفقه حياتنا، كنت شيخاً ورعاً ومعلماً متمكناً، كنت أستاذاً في الشريعة وأستاذاً في النحو وعارفاً بالفلك، ومثقفاً رحب الثقافة تقرأ في فنون المعرفة. كنا محظوظين بك ننهل منك ونزداد علماً. كنت مشجعاً لنا على نيل النجاح ومربياً فاضلاً تزرع فينا حب التطلُّع.
لن ننسى تشجعك لنا عند نجاحنا الدراسي ومتابعتك .. لن ننسى تهنئتك لنا عندما كنا نحفظ القرآن في حلقات التحفيظ.
لن ننسى تحفيزك لنا على القراءة عندما كنت تشاهدنا نقرأ كتاباً , كيف كنت تقف أمامنا فتأخذ الكتاب وتقرأ عنوانه وجزءاً من مقدمته وبعضاً مما فيه فتشيد وتوجِّه.
لن ننسى سهرك ورقيتك بالقرآن على أجسادنا عندما يعترينا المرض ودعاؤك لنا. رحمك الله يا أبي فكم كنت رحيماً رفيقاً وموجهاً ناصحاً.
تبكيك بيتك ومصلاك وكرسيك وطاولتك وكتبك , تبكيك الصفحات المسطرة بالكلمات والصفحات البيض التي تنتظر دورها في تسجيل الفوائد والنوادر.
تبكيك مدرستك العزيزة (مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) التي كنت فيها معلماً ومربياً.
يبكيك المعهد العلمي في محافظة البكيرية الذي كنت له مؤسساً.
تبكيك المساجد التي كنت فيها إماماً.
يبكيك أهلك وإخوانك وطلابك وجيرانك.
سيرتك نيّرة تتلى فصولها من غير منتهى سيرة من سير العظماء.
رحمك الله يا أبي وأسكنك فسيح جناته.
لقد حملت الفضيلة وغرستها فيمن حولك وجاهدت جهاداً عظيماً من أجلها , عُرفت منذ صباك بجدك وصبرك، ومبدئك فكنت أنت أنت مع مرور العمر شيخ لا تغيره الظروف مؤمن بربه صادق مع نفسه مؤمناً بقضائه يزداد قدره وعلمه وإيمانه.
عرفت بعلمك وزهدك فما زادك ذلك إلا تواضعاً. فضلت العزلة للطاعة فعشت قريباً من قرآنك ومسجدك وكتابك وأسرتك حتى لقيت ربك..
الحديث عنك حديث لا يمل وإن طال وأنس لا يبيد غفر الله لك ذنبك ونقاك منه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وجعلك الله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.