Al Jazirah NewsPaper Sunday  28/09/2008 G Issue 13149
الأحد 28 رمضان 1429   العدد  13149
نوافذ
الحداثة تلتهم أبناءها
أميمة الخميس

أقوى التيارات الفكرية حضورا على الساحة العالمية الآن هو تيار ما بعد الحداثة، فكثير من الأصوات التي ترتفع في أوروبا الآن (وهي المصنع الأم للحداثة) ومركز ما يسمى بعصور التنوير ترى أن الحداثة على الرغم من الكثير من الإنجازات التي حققتها على مستوى أنسنة الأنظمة والإعلاء من شأن البشر بحيث جعلت الشرائع والأنظمة والقوانين في خدمتهم وليس هم عبيد منقادون لها، ولاسيما عندما حررتهم من الأسقف الضيقة للكنيسة.

لكن من جانب آخر ترتفع الآن الكثير من الأصوات التي ترى أن الحداثة أعلت من شأن الإنسان على حساب جميع المخلوقات والموجودات التي تحيط به وتشاركه هذا الكوكب، فانطلق هذا الإنسان الحديث بأحاسيس العظمة التي تجعله صنما مقدسا بين جميع موجودات الطبيعة من حوله، فانطلق مدمرا مخربا مستنفذا للمقدرات الطبيعية من حوله، فتحول القرن الماضي، إلى أشد السنوات تدميرا للبيئة ومخلوقاتها، والأرض منذ الأزل لم تعان من الاختلالات في التوازن البيئي كالتي عانتها في العصور المتأخرة، من خلال عدة مظاهر على رأسها الانحباس الحراري.

يذكر هاشم صالح في كتابه مدخل إلى التنوير الأوروبي أن الحداثة التي قامت في جلها على تعظيم الإنسان وتمييزه على الموجودات قد خلقت خلية مركزية متضخمة نواتها الإنسان الأوروبي الذي يقوم في جميع مفاهيمه وقيمه على الإنسان المتفوق، ويورد بعض الأصوات الجديدة التي بدأت ترتفع من قلب معاقل الحداثة الأوروبية مطالبة بتحديث الحداثة، وكف يدها عن البيئة والموجودات أبرز هذه الأصوات الفيلسوف ميشيل فوكو الذي يتخطى مقولة التشريع بالعقل المقدس حيث العقل هو صنم التنوير والحداثة إلى بعد آخر يشرع الأبواب، ويفتح مفهوم الإمكان على كل أبعاد احتمالاته، وعلى نحو تتغير معه العلاقة بين الممكن والمستحيل أيضا يذكر أطروحة الفيلسوف (بول فيرييو) الذي يرى أن الإنسان الحديث لم يعد عاشقا للعدالة والحرية والمساواة، بقدر ما هو إنسان جشع مختال يعلي من مبدأ القوة على حساب العدالة، ويرقد على غابة من أسلحة الدمار الشامل وهذا ما يذكره بالتحديد (علي حرب) في كتابه (الإنسان الأدنى) حيث يورد مقولة (هابرمس) المتمرد على الحداثة بالتفصيل لأنها تجسد الميل الطاغي إلى التخصيص الذي يغلب المصالح الشخصية والنزعات الفردية على القيم التي تسهم في تشكيل الإرادة العمومية، فضلا على الخيبات الناتجة عن النزاعات الدولية الدائمة والمظالم الصارخة لمجتمع عالمي آخذ في التفتت.

إذا نجد من خلال هذا كله أن الحداثة التنويرية التي انطلقت من أوروبا وجعلت من العقل نبراسا ومنبرا لها، وأنزلت القوانين والشرائع إلى المستوى الدنيوي الإنساني حيث البطل السوبر النيتشوي القادر على كل شيء باتت تأكل أبناءها وتفنيهم ليجد الإنسان نفسه من جديد أمام عراء المجهول وظلمة الأسئلة.

لكن الأمر الوحيد الذي يحسب للحداثة أنها أعلت من شأن النقد والتفكير النقدي التحليلي، وهو حتما التفكير الذي قاد أحفاد الحداثة لأن يتمردوا على ميراث أجدادهم التنويري الضخم.

العصر الحديث بكل منجزه الحضاري وتطوره واختراعاته يقف أمام منعطف كبير وكومة من علامات الاستفهام لأنه لم يقدم للبشر جميع الحلول التي لوح بها، بل الفقراء ازدادوا فقرا ومرضا وبؤسا، والأغنياء ازدادوا ثراء ونهما وجشعا وتكالبا على الموارد الطبيعية في البيئة بشكل أخل بالتوازن الطبيعي وهدده على أكثر من مستوى.

الحداثة تقف بأردية قديمة مهلهلة تنتظر الإجابة من الأصوات المحتجة على..... أم تلتهم أبناءها.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6287 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد