Al Jazirah NewsPaper Sunday  28/09/2008 G Issue 13149
الأحد 28 رمضان 1429   العدد  13149

علماء الأمة عنوان فكرها ومصدر نورها
اللواء الركن (م) سلامة بن هذال بن سعيدان

 

إن المعرفة العلمية والثقافية رغم ما لها من عمومية وما تشتمل عليه من علوم الدين والدنيا إلا أن المقصود في هذه المقالة هي العلوم ذات الخصوصية الدينية التي تنطلق من القرآن الكريم والسنة النبوية، كما أن المقصود بالعلماء الأتقياء....

... الذين تناط بهم مسؤوليات إصدار الأحكام والفصل بين الأنام في القضايا الشرعية، وكل ما له صلة بالأمور الدينية وعلاقتها بحياة الناس وأمورهم الدنيوية، حيث قال سبحانه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على العلماء، واعتبرهم ورثة الأنبياء، ووصفهم بالخير مقدما إياهم على غيرهم، حيث قال: (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين). وقال: (خير الدنيا والآخرة مع العلم، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل). وكان من نهجه السياسي أن لا يسود الناس ولا يقودهم، ولا يؤمهم في الصلاة إلا من كان أكثرهم علما وتفقها في الدين، مع الحث على التفكير واستخدام العقل وعدم الركون إلى التقليد واتباع العادات، بحيث يتم التركيز في هذا التفكير على طبيعة الكون وأنه سخر لخدمة الإنسان الذي استخلفه الله فيه وكلفه بعمارته، مما يتطلب منه دراسة هذا الكون والتعمق في علومه التي ليس لها نهاية، كما أشار إلى ذلك الحق تبارك وتعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، وقد ورد فضل العلماء في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، وكذلك ورد في عدة أحاديث نبوية، فضلا عن أقوال خيار السلف والمأثورات والحكم والأمثال، وهذه الأفضلية في أحد جوانبها تتعلق بالحياة الدنيا، وتنطبق في عمومها على العلماء في مختلف أنواع المعرفة، وفي خصوصها تتركز على العلوم الشرعية، شريطة أن يقترن العلم بالعمل.

وعلماء الأمة المسلمة يتحملون مسؤولية نصيحة الحكام وإرشاد المحكومين، آمرين بالمعروف، وناهين عن المنكر، كما يوجهون الأمة بأقوالهم الناصحة وأفعالهم الصالحة إلى ما فيه خير العاجل والآجل مع الالتزام بنصرة الحق والدعوة إليه والتصدي للباطل ودحضه بكل ما يتوفر لهم من الحكمة وفصل الخطاب، وهؤلاء العلماء منهم الوزراء والمفتون والقضاة والدعاة ورجال الحسبة، وجهادهم في الله ودعوتهم إليه بالتي هي أحسن وبالموعظة الحسنة، تعادل التضحية بالنفس والنفيس، بل أحيانا يكون اللسان أشد وقعا والقلم أكثر تأثيرا، وما التفت أمة حول قادتها وعلمائها إلا قادت وسادت وشادت، واستطاعت إذا أرادت، وعلى الجانب المضاد فإنه ما تهاونت أمة بحق علمائها إلا وذهب مجدها وتفرق أمرها.

والعلماء يلجؤون باستمرار إلى الحكمة في الدعوة والإقناع في الحجة، والإخلاص في النصيحة والإحسان في الموعظة، ليعلم المكابرون الأشرار أنهم مهزومون ومغلوبون على أمرهم، في حين يسمع العقلاء الأخيار كلاما فصيحا وحكمة تأخذ بمجامع القلوب، وبذلك يثمر الاجتهاد ويتحقق المراد، مع الأخذ في الحسبان رفع الحرج عن الناس واللين والتيسير في جميع الأمور بلا مداهنة ولا مجاملة ولا هوادة في الحق، وشغلهم الشاغل هو الحرص على هداية الأمة وإصلاح حالها، وتطبيق الأحكام الشرعية والقوانين المرعية بما يخدم الدين والدنيا.

والعلماء في الأرض كالنجوم في السماء، والمتواضع فيهم أكثرهم علما، مثله في ذلك مثل المكان المنخفض الذي يعد أكثر البقاع في الاحتفاظ بالماء، وحتى يجسد العالم هذه المنقبة فإنه إذا ما زاد علمه ينظر إلى من فوقه من العلماء، ولا يتعالى على من دونه، وبذلك لا يتسرب التيه إلى نفسه، ومن ترفع بعلمه وضعه الله بعمله، وغلطة العالم لا يعادلها غلطة، وإذا ما زل هذا العالم زل بزلته عالم، وقد قيل: زلة العالم كانكسار سفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير.

والدولة السعودية عبر مراحل تاريخها، كانت ولا تزال حريصة كل الحرص على احتضان العلماء، داعمة إياهم من جهة، وكاسبة ولاءهم وإخلاصهم من جهة أخرى، بالصورة التي ينعكس معها انتماؤهم الديني على الدولة والوطن، وذلك من أجل إعلاء كلمة الله وتطبيق الشريعة الإسلامية السمحة، وهذا المنهج الثابت توارثته الأسرة السعودية كابراً عن كابر وخلفاً عن سلف، وهو منهج يجمع بين الأسرة الحاكمة والمؤسسة الدينية والشعب، ولا مساومة عليه، مهما عاكست الظروف أو حاول بعض دعاة الفتنة والمذاهب المنحرفة اللعب بالنار والرمي من وراء الستار، مغلفين المطامع السياسية بمسميات حضارية ومصطلحات خادعة، خصوصاً وأن المؤسسة الدينية ممثلة في رموزها ليست لها أهداف سياسية ولا تطلعات دنيوية، تصطدم مع تطلعات الأمة وانتمائها الديني والوطني، وماضي هذه المؤسسة وحاضرها يشهدان على ذلك.

والعلماء بشر، والبشر خطاؤون، وليس ثمة أحد معصوم من الخطأ، وربما يكون هناك فئة محسوبة على العلماء، ظهروا في مظاهر قد لا يرضى عنها البعض بما في ذلك حب الظهور والتهافت على وسائل الإعلام لهذا الغرض، واستسهال أمر الفتوى وممارستها في أمور شرعية ليست من اختصاص هذا المفتي أو ذاك، مما فتح الباب على مصراعيه للنيل من مرجعية الإفتاء والتقليل من شأنها، وبالتالي التطاول على رموزها، رغم أن هذه المرجعية يعتبر ضبطها والسيطرة عليها مطلبا دينيا ووطنيا على مستوى الدولة، والمساس بها أو التطفل عليها له عواقب وخيمة تضر بثوابت الأمة وتلحق الأذى بأمنها الوطني ومصالحها العليا.

ومن هذا المنطلق وربما لحاجة في نفس يعقوب، فإن هناك من يحاول من خلال بعض وسائل الإعلام الإساءة إلى رموز المؤسسة الدينية على نحو غير مبرر، وهؤلاء الرموز لهم حرمتهم، وسيرتهم تقف شاهدة على تميز المستوى وطيب المحتوى، كما أن المنزلة الدينية والمنصب الوظيفي والخدمة الطويلة وكبر السن، والرصيد الوفير من الإنجازات، كلها مبررات كفيلة بأن تجعلهم في منأى عن التعريض بهم في وسائل الإعلام، والأمة المحترمة تحترم علماءها، وتخاطبهم على قدر فضلهم، مضفية عليهم قدرا من الوقار والهيبة التي يستحقونها، بالإضافة إلى أن العلوم الشرعية على وجه الخصوص لها تقديرها الذي ينعكس على العالم الذي يزاول هذه العلوم ويشغل وظيفة باسمها.

والإعلام في أي بلد، مهما كان محافظا، فإن عاطفة الانفعال تجاه الشكوى والاندفاع نحو الدعاية والتطلع إلى الإثارة والسبق، تجعل بعض العاملين فيه يجنح إلى الأمور الدعائية والمكاسب المادية حتى في قضايا بالغة الحساسية، ويتعامل معها بنوع من العاطفة مع قياسها بمقاييس مهنية ذات طابع عالمي وتوجه مادي، مثل حرية التعبير وغيرها.. في حين ينظر العلماء إلى هذه الأمور بعقلانية ويخضعونها للنظرة الشرعية من جانب، ولموازين الحكمة والمنطق من جانب آخر، وعلى المستوى الرسمي فإن طبيعة عمل الإعلام تجعله يتهالك في سبيل تنفيذ رغبة السلطة، بينما قد يكون للعلماء نوع من التحفظ في بعض الأحيان، والإعلام ينساق مع السياسة على ظاهرها وكيفما اتفق، في الوقت الذي ربما يكون للعلماء رأي آخر حيال مواقف معينة، والأبعاد الدينية والسياسية والإعلامية دائما يكون بينها مواطن التقاء ونقاط تفرق، والسلطة العليا للدولة تمثل مرجعية يتم من خلالها السيطرة على المتناقضات وغربلتها ومن ثم توحيد فكرتها وصبها في قالب واحد، وهذه الحقائق وما فيها من تنافر بين نظرة الأطراف الثلاثة تكشف عن مدى اتساع الفجوة بين عقلانية العلماء وغائية السياسة وعاطفة الإعلام.

ومعظم الواجبات المطلوبة من الإعلام الوطني والتي تشكل في واقعها مطالب إنسانية، ويتحول بعضها إلى فضائل اجتماعية، تدخل في صلب دعوة العلماء التي يعملون على تأصيلها في المجتمع، وبمجرد أن يتمكن الإعلام من إدراك ما هو مطلوب منه تجاه هذه الأمور، وإنجازها على الوجه الذي ترضى عنه الأمة، ويخدم سياسة الدولة، ولا يتعارض مع الدين، فإن ذلك يكون قاسما مشتركا بين الطرفين يجعلهما يشعران بالارتياح المتبادل نحو بعضهم البعض، وبالتالي تبرز نقاط الالتقاء على حساب نقاط الاختلاف، وما يترتب على القناعة المشتركة بين كل منهما من انطباعات إيجابية وثقة متبادلة، تجعل منها الأيام عادة معتادة وطبيعة متأصلة.

والعلماء هم عنوان فكر الأمة ومصدر نورها، فهم الذين يحافظون على الموروث الديني والفكري لهذه الأمة، وبفضلهم يسود الفكر السليم، وتنتشر العلوم النافعة بين الناس، متخذين من الحكمة شعارا ومن الورع والتقوى دثارا، بغية تجاوز التأثير في الداخل إلى الخارج، والإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، وكذلك تحصين الأمة أمام الأفكار الوافدة والدخيلة، ومقاومة أي تهديد فكري محتمل.

والعالم إذا ما تقدم به العمر جمع بين التحصيل المتراكم والتأهيل المتجدد، وتوفرت له القدرة على العطاء وحسن الأداء، مطبقا العلم على العمل على النحو الذي يجيب معه إذا سئل، ويجيد إذا أجاب، منطبقا عليه ما ينطبق على الشجرة المثمرة التي كلما تم تحريكها سقط ثمرها، ولله در القائل:

فاعمل بما عُلِّمتَ فالعلماء إن

لم يعملوا شجرٌ بلا أثمار

والعلم مهما صادف التقوى يكنْ

كالريح إذ مر على الأزهار

وفي الختام فإن الأمة التي تحترم علمها وتحافظ على عقيدتها، ولها مرشد من حضارتها ودليل من تاريخها، يتجسد احترامها ويظهر اعتزازها بذاتها فيما يتمتع به علماؤها من احترام وتقدير، جاعلة منهم صورة مصغرة لها، ومضفية عليهم هيبة من هيبتها بما يجلب لها العزة والخير، ويحجب عنها الهوان والشر.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد