منذ خمسين عاماً استولى الجنرال شارل ديغول على السلطة في فرنسا فيما اعتبر انقلاباً شرعياً في الأساس. حقيقة أن البرلمان الفرنسي المتخبط استدعى الجنرال ديغول وانتخبه، ولكن بسبب الضغوط التي مارسها الجيش الفرنسي والثورة في الجزائر لم يكن أمام البرلمان قدر كبير من حرية الاختيار.
وكان زعماء الجمهورية الفرنسية المضطربون يتمنون لو يتمكن ديغول من إنهاء حرب الجزائر مع الإبقاء على الجزائر فرنسية.
بيد أن أجندة ديغول كانت مختلفة تماماً؛ إذ كان عازماً على إعادة كتابة الدستور وتأسيس (الجمهورية الخامسة) في فرنسا.
كانت حرب الجزائر في نظر ديغول مجرد عَرَض من أعراض الاختلال الوظيفي الذي عانت منه الدولة، وهو التحليل الذي استند فيه إلى خبرته الشخصية في العام 1940م، حين أثبتت الحكومة الفرنسية عجزها عن مقاومة الغزو الألماني تحت زعامة هتلر.
وكان ديغول يعتقد أن تجنب الهزيمة لم يكن ليتسنى إلا في وجود زعيم قوي.
في مذكراته، أقر ديغول بأنه كان يفضل إعادة النظام الملكي بعد تحرير فرنسا.
إلا أن الرأي العام لم يكن مستعداً لأمر كهذا، ولم يكن ورثة التاج الفرنسي على قدر المهمة.
وكان البديل يتلخص في ملك منتخب.
ومن الواضح أن دستور الجمهورية الخامسة، الذي تم التصديق عليه منذ خمسين عاماً، صيغ حول هذا المبدأ المركزي.
كان ديغول يكره في الجمهورية الرابعة ما أطلق عليه (نظام الأحزاب)، التي كانت تضع مصالحها فوق المصلحة الوطنية.
وكان يرى أن ملكاً أو ملكاً منتخباً فقط هو القادر على تجسيد المصالح الوطنية.
وبفضل براعته غير العادية كمروج دعائي نجح ديغول في إقناع الشعب الفرنسي بأن الجمهورية الرابعة كانت كارثة، وهي الإشاعة الكاذبة التي ظلت متداولة كأمر مسَلَّم به منذ ذلك الوقت.
بيد أن رؤية ديغول للحكومة لاقت قبولاً لدى العديد من الفرنسيين ووافقت قناعاتهم، وبصورة خاصة لدى عامة المفكرين والمثقفين.
والحقيقة أن الفرنسيين نادراً ما كانوا من المغرمين بالديمقراطية.
ولم يكن الفلاسفة الذين ولِدَت الثورة الفرنسية في العام 1789 على أيديهم يتوقون إلى الديمقراطية، بل إلى الاستبداد المستنير، وهي الصفة التي ما زال العديد من الفرنسيين يبحثون عنها حين ينتخبون رئيساً.
إن الديمقراطية من وجهة النظر الفرنسية تبدو أميركية أكثر مما ينبغي.
وعلى هذا فإن الفرنسيين مهيؤون للإيمان بالتنوع الثقافي للأمم أكثر من تهيئهم للإيمان بعالمية الديمقراطية.
وهذا يفسر لنا لماذا تميل الحكومات الفرنسية، سواء من اليمين أو اليسار، إلى دعم الاستبداد في البلدان التي يبدو فيها الاستبداد (أمراً طبيعياً).
والحكام المستبدون في البلدان العربية، والصين، وروسيا لا يصدمون الفرنسيين كثيراً.
لن يفكر أي رئيس فرنسي في تصدير الديمقراطية على الإطلاق.
وكما قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك: (إن فرض الديمقراطية على البلدان العربية يعني أنك لا تحترم اختلافاتها الثقافية).
وكما تمنى ديغول، أصبح الرئيس الفرنسي يملك من السلطات ما لا يضاهيه فيها أي رئيس آخر في أي نظام ديمقراطي غربي.
ويبدو أن نظرية مونتسكيو في فصل السلطات الحكومية لا تلعب أي دور في فرنسا.
فالبرلمان ضعيف، والجهاز القضائي خاضع لسيطرة الجهاز التنفيذي، والإعلام تحت الرقابة دوماً، ولا ضمانة لحرية التعبير في الدستور الفرنسي.
لا يحد من سلطات الرئيس في فرنسا إلا الصدفة، وذلك حين يحدث أن تكون الأغلبية في البرلمان غير راضية عنه: ولقد حدث هذا مع كل من الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران والرئيس المحافظ جاك شيراك.
ولقد اضطر كل منهما إلى (التعايش) لفترة من الوقت مع برلمان عدائي.
أما الشؤون العسكرية والخارجية التي يعتبرها القانون الفرنسي (ملكاً محفوظاً) للرئيس فهي تظل دوماً تحت السيطرة الشخصية للرئيس.
ولكن حين يسيطر نفس الحزب على الرئيس والبرلمان وهو الموقف الحالي للرئيس نيكولا ساركوزي فإن هذا (الملك المحفوظ) لا تحكمه أي حدود في الممارسة الفعلية.
رغم تركز السلطات على هذا النحو الهائل في الرئاسة، أو ربما لهذا السبب، أخفقت الجمهورية الخامسة في أن يكون أداؤها أفضل من الأنظمة الغربية الأكثر ديمقراطية.
فميزانية الدولة الفرنسية تُدار بشكل رديء على نحو مزمن، حيث أصبح عجزها يضاهي عجز الميزانية في إيطاليا.
والعديد من المشاريع الاقتصادية الديغولية الفخيمة بداية من طائرة الكونكورد الأسرع من الصوت إلى صناعة الحواسب الآلية الوطنية كان مصيرها الفشل.
كما أشرفت أغلب صناعات القطاع العام على الإفلاس إلى أن أنقذتها المنافسة والخصخصة.
إن ملوك فرنسا المنتخبين لديهم القليل من أسباب الفخر بدولتهم التي تتسم بالكفاءة طبقاً للمفترض.
وربما يكون الاستثناء في الخدمات العسكرية والدبلوماسية؛ إذ إن أغلب الرؤساء الفرنسيين كانوا ينفقون بسخاء على المؤسسة العسكرية، جرياً على عادة ديغول.
كما كانت الدوائر السياسية الفرنسية المستقلة، التي تميل نحو (عدم الانحياز إلى الحلفاء) والتي كثيراً ما يُنظَر إليها باعتبارها خؤونة ومتغطرسة، حريصة على الحفاظ على التقاليد الديغولية.
أثناء القسم الأعظم من الحرب الباردة، بدا ديغول وكأنه عازم على تجنب الاختيار بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
وكان فاليري جيسكار ديستان مشهوراً بأنه صاحب أفضل علاقات مع زعماء أوروبا الشرقية الشيوعيين بين كل زعماء الغرب. كما عارض شيراك الحرب في العراق بكل حماس.
أما ساركوزي فإن سلوكه اليوم يأتي أكثر تناغماً مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي والاتحاد الأوروبي، بيد أن دافعه الوحيد وراء ذلك هو رغبته في التحول إلى زعيم عالمي.
ولكن المشكلة الحقيقية في الجمهورية الخامسة ربما تتلخص في نفوذها خارج فرنسا.
فمن قبيل اتباع رؤية ديغول، أصبح الملوك المنتخبون أو الطغاة المستنيرون يُنظَر إليهم اليوم باعتبارهم بديلاً شرعياً للديمقراطية البرلمانية أو لمبدأ الفصل بين السلطات الذي تتبناه الولايات المتحدة.
وأغلب بلدان أميركا اللاتينية، باستثناء البرازيل وشيلي، يحكمها ملوك منتخبون، كنسخة مستحدثة من تقليد الزعيم المطلق (caudillo).
أما روسيا، فبعد محاولة قصيرة لتبني الديمقراطية تحت قيادة بوريس يلتسين، ارتدت نحو شكل من أشكال الاستبداد غير المستنير تحت زعامة فلاديمير بوتن.
فهي تعقد الانتخابات، ولكن على نحو فيه استعراض للحداثة، وليس كوسيلة لتمثيل إرادة الشعب.
إن الدعوة التي أطلقتها الثورة الفرنسية باحترام الحقوق الشاملة، مثلها كمثل لوحة الموناليزا في متحف اللوفر، نستطيع أن نعبر عن إعجابنا بها ولكن من وراء الزجاج المضاد للرصاص، وهي بالطبع أغلى وأثمن من أن تُصَدر.
خاص بـ«الجزيرة»
غاي سورمان فيلسوف وخبير اقتصادي فرنسي، وهو مؤلف كتاب (إمبراطورية الأكاذيب).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008م.