مرت الذكرى السابعة على أحداث الحادي عشر من سبتمبر قبل أيام، وتناولتها وسائل الإعلام والفضائيات وأغلبها يقرن في حديثه السلفية الجهادية بتنظيم القاعدة، ويتحدث عنهما كوجهين لعملة واحدة، والصواب أنهما يفترقان في الأصول والفروع ولا علاقة لتنظيم القاعدة والتكفير والهجرة والخوارج بالسلفية لا من قريب ولا بعيد. |
والمؤلم أن جهل الإعلاميين وغيرهم بهذا المصطلح جعلهم يخلطون الأوراق ويضعون النقاط على غير حروفها وربما أن مشاركة خمسة عشر حركيا في تلك الأحداث سوغ لأولئك هذا الخلط بين السلفية والحركية وبخاصة أن علماء هذا الوطن المعتبرين كهيئة كبار العلماء ومجلس القضاء الأعلى وغيرهم من رجال المؤسسات الدينية هم من يمثل منهج السلفية الحقة ولا علاقة بينهم وبين أي فكر حركي فضلاً عن تأييده أو الدعوة إليه بل إنهم وقفوا وبينوا ووجهوا كل من كانت في ذهنه شبهة منذ سنين وصاحوا حتى تقطعت حناجرهم من تلك الأفكار الوافدة يقيناً منهم أنها هدامة تجلب الويل والثبور للأمة، فعاداهم الحركيون ووصفوهم بأوصاف لا تليق وكانوا على خلاف عقدي كبير، بل إن أولئك الخمسة عشر حركياً يطعنون في ولاة الأمر والعلماء ويعادون هذه البلاد التي لم تسلم من شرهم وشرورهم. |
إن وصف من قاموا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر بالسلفية الجهادية أمر خطير ولا يسكت عنه؛ لأن السلفية أصبحت معلماً على علماء هذه البلاد وما تميزوا به من صفاء عقدي وبعد نظر وقراءة للأحداث صحيحة وفق منهج السلف الصالح الذين يقدرون الأمور مقاديرها يضعونها في موازينها في ظل ولاة الأمر وطاعتهم في غير معصية كما يرون أن الجهاد والقضاء والفتيا من أعمال السلطان التي يتعبد الله جل وعلا بها، والأعجب من ذلك أن الحركيين فرحوا بهذه التسمية الجديدة (السلفية الجهادية) لتمنحهم شرعية في المجتمعات التي لمست خطورة فعلهم ومواجهتهم للآخرين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما أحداث أفغانستان والعراق عنا ببعيد، كانا بلدين آمنين، فهدمتا على رؤوس أهاليها بسبب المواجهات الحركية التي تتهكم بمن يؤمن بالواقعية وتعده ضرباً من الخنوع والامتهان والعقلاء وحدهم يعرفون مآلات المواجهات الأشبه بالانتحار وكما قال الشاعر: |
وجرم جره سفهاء قوم |
وحلَّ بغير فاعله العذاب |
نعم حينما يهرب ويختبئ أولئك في الكهوف والمغارات يكون الانتقام من الأبرياء والأطفال والعجزة، ويظهر الفرق بين الحركية على اختلاف مشاربها والسلفية الجهادية الحقة من خلال الآتي: |
1- السلفية تعني العودة إلى نهج السلف الصالح والتمسك به باعتباره يمثل نهج الإسلام الأصيل والتمسك بأخذ الأحكام من الأحاديث الصحيحة دون الرجوع للكتب المذهبية، والجهادية نسبة إلى الجهاد وهو عبادة من أجل العبادات الباقية إلى يوم القيامة، يتشرف المسلم بالانتساب إليها لأنه يبذل روحه في سبيل الله، والجهاد كأي عبادة لابد من توافر شرطي الإخلاص والمتابعة فالإخلاص لله جل وعلا وليس لحزب أو طائفة أو إنسان والمتابعة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وتلك يفهمها السلف الصالح أهل الصراط المستقيم صراط الذين انعم الله عليهم، وما أبعد الحركية عن هذين المعنيين الشرعيين لأنها سيستهما خدمة لمآرب الفكر الحركي وإخلاصاً لرموزه. |
2- الحركية تكفر المجتمعات بولاة أمرها وعلمائها ومفكريها أو تتعاطف مع من يرى هذا الرأي، وتسعى إلى ذلك بالتشويه والتزوير والكذب دون سبر للأمور قال ابن تيمية: (ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذوي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد أكثر من الذي إزالته)، وهذا يدركه العلماء والعقلاء من أمثال ابن حنبل إذ قال: (اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبدالله يعني الإمام أحمد رحمه الله وقالوا له إن الأمر قد فشا وتفاقم يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك ولا نرضى بإمارته وسلطانه فناظرهم وقال عليكم بالإنكار في قلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم وانظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر ويستراح من فاجر) والمتأمل في هذا النص يقف على أمرين مهمين: أحدهما (فقهاء بغداد) وليس شباب أفغانستان وأحداث السن من طلبة العلم وطلابهم والآخر أن الواثق كان يلزم المسلمين ببدعته ويجبر العلماء عليها وهو خلل عقدي كبير وأما ولاة الأمر في هذه البلاد فأهل سنة ومنهج وعقيدة ولا ندعي عصمتهم من الذنوب ولكن الخلل في المعتقد أخطر من المعاصي باختلاف مشاربها ومع ذلك أبى الإمام أحمد الخروج وسفك الدماء حرصاً على تحقيق الضرورات الخمس، بينما ترى السلفية طاعة ولي الأمر واجبة في غير معصية الخالق، تمسكاً بالنصوص الشرعية التي تؤكد ذلك ومن أهمها: قال أبو جعفر الطحاوي: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة)، وقال الشيخ أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني: (والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم واتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم)، وقال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل: (والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به) وقال ابن قدامة: (ومن السنة السمع والطاعة لأئمة المسلمين أمراء المؤمنين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله)، وقد استدلوا بأدلة كثيرة ليس هذا المقام مقام سردها. |
3- الحركية تقاتل دون إمام وبلا راية وبخاصة جهاد الطلب، لأنها لا تعقد بيعة لولي الأمر ولا ترى شرعيته ومن ذلك فعلهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولا يغر المسلمين جهادهم المزعوم وتسميتهم تلك الأحداث بغزوة منهاتن فقد أخرج ابن وضاح عن الحسن أن رجلا أتى أبا موسى الأشعري وعنده ابن مسعود فقال: أرأيت رجلاً خرج بسيفه غضبا لله فقاتل حتى قتل أين هو؟ فقال أبو موسى في الجنة، فقال ابن مسعود أيها المفتي سل صاحبك على سنة ضرب أم على بدعة؟ قال الحسن: فإذا بالقوم قد ضربوا بأسيافهم على البدع) وتخبط الحركيين في هذه الفوضى وتلك البدع جر الويلات على الأمة بينما السلفية ترى أن الإمام الأعظم هو الذي يدعو للجهاد وأن تسيير الجيوش وتعيين القادة عليها من اختصاصه، بدليل النصوص الآتية: قال الطحاوي: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما)، وقال الإمام أحمد: (والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع مع الأمراء أبرارا كانوا أم فجارا) وقال الشيخ محمد بن عبدالرحمن الحطاب: (قال في التوضيح ابن المواز ولا يجوز خروج جيش إلا بإذن الإمام.. وقال الشيخ أحمد رزوق في بعض وصاياه لإخوانه: التوجه للجهاد بغير إذن جماعة المسلمين وسلطانهم فإنه سلم الفتنة، وقلما اشتغل به أحد فأنجح) وقال ابن قدامة: (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك)، وقال أبناء شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر: (الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإمام يجب نصبه على الناس وذلك أن أمور الإسلام لا تتم إلا بذلك كالجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وإنصاف الضعيف من القوي وغير ذلك من أمور الدين). وقد أخرج البخاري في كتاب الجهاد باب من يقاتل وراء الإمام ويتقي به ومسلم في كتاب الإمارة باب الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقي به حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقي به فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا وإن قال بغيره فإنه عليه منه) فالرسول جعل الإمام كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام ويتقيه الناس ويخافون سطوته كما بين المصطفى أنه يقاتل من ورائه أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقا كما جاء في شرح صحيح مسلم. |
4- الحركية لا توقر إماما ولا تحترم عالما يختلف معها وكثيرا ما تنبزهم بالألقاب كالجامية مثلا وتصف العلماء الربانيين بعلماء السلطان لتستقل بالفتوى والتوجيه بينما ترى السلفية أن هذا المصطلح شرعي لأن العلماء والقضاة وأهل الفتوى يعينهم السلطان وهم نواب عنه والإضافة إلى السلطان الذي هو ظل الله في الأرض لا تعد عيبا ولا سبة، والدليل على ذلك ما روته كتب السير حينما أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يولي عمر رضي الله عنه القضاء فرفض عمر فغضب أبو بكر رضي الله عنهما وقال له: (قد وليتموني هذا الأمر ثم ترفضون مساعدتي على تحقيق تلك الولاية)، والأدهى من ذلك أن الحركيين اتخذوا في المرجعية طلبة علم مجاهيل، فضلاً عن حداثة سنهم دون إدراك، وخير ما يفضح واقع الحركيين وغيرهم مع علماء السلطان كلمات قالها الراغب الأصفهاني في كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة: (لا شيء أوجب على السلطان من رعاية أحوال المتصدين للرياسة بالعلم، فمن الإخلال بها ينتشر الشر ويكثر الأشرار، ويقع بين الناس التباغض والتناقض.. ولما ترشح قوم للزعامة في العلم بغير استحقاق وأحدثوا بجهلهم بدعا استغروا بها العامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة فوجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم وقرب جوهرهم منهم وفتحوا بذلك طرقا منسدة ورفعوا به ستورا مسبلة وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيهم من الشر فبدّعوا العلماء وجهّلوهم اغتصابا لسلطانهم ومنازعة لمكانهم فأغروا بهم اتباعهم ووطؤوهم بأظلافهم وأخفافهم فتولد بذلك البوار والجور العام والعار). |
وبذلك يثبت أن هؤلاء الحركيين في إقحامهم الأمة في حروب لا قبل لها بها يختلف عن السلف الصالح وطريقتهم في تعاملهم مع الكفار والمجتمع المسلم بفئاته المختلفة ابتداء من ولي الأمر وانتهاء بأفراده.. ولكننا في زمن اختطف فيه الحركيون والحزبيون ومن هم على شاكلتهم مصطلح السلفية الجهادية لصبغ أعمالهم الشريرة وتفجيرهم وتكفيرهم ومواجهة الآخرين بالشرعية الإسلامية التي هي بريئة من كل هذه الفوضى والفساد، وعليه يجب أن تتنبه الأمة وتستيقظ من سباتها العميق وتحرر مصطلحاتها من الاختطاف والتزوير والله من وراء القصد. |
|