يأتي الاحتفال بذكرى اليوم الوطني للمملكة هذا العام ومسيرة البناء والنهضة الشاملة التي اختطها الملك المؤسس وأرسى دعائمها الفكرية والمؤسسية والإدارية قد تواصلت في عهد أبنائه البررة مسترشدة بأفكاره وممارساته العملية في مجالات التخطيط التنموي والإدارة الاقتصادية، فأثمرت إنجازات ونجاحات ملموسة في كافة المجالات تجسدت في الارتفاع المستمر...
يأتي الاحتفال بذكرى اليوم الوطني للمملكة هذا العام ومسيرة البناء والنهضة الشاملة التي اختطها الملك المؤسس وأرسى دعائمها الفكرية والمؤسسية والإدارية قد تواصلت في عهد أبنائه البررة مسترشدة بأفكاره وممارساته العملية في مجالات التخطيط التنموي والإدارة الاقتصادية، فأثمرت إنجازات ونجاحات ملموسة في كافة المجالات تجسدت في الارتفاع المستمر في مستوى معيشة المواطنين ونوعية حياتهم وفي النهضة العمرانية والصناعية الشاملة ومنظومة التجهيزات الأساسية والخدمات الاقتصادية والاجتماعية المتطورة التي غطت كافة أنحاء المملكة. وتقف هذه الإنجازات الآن دليلاً ساطعاً على فاعلية النهج التنموي الذي ظلت تنتهجه المملكة والذي يمزج التخطيط العلمي المدروس للنشاط الحكومي والترشيد الهادف والدعم المستمر لنشاط القطاع الخاص في إطار من الحرية الاقتصادية والمبادرات الفردية.
فقد تحققت على امتداد الثلاثة عقود ونيف الماضية تطورات هيكلية، اقتصادية واجتماعية، ظاهرة على الصعيدين الكلي والقطاعي، واكتسب اقتصاد المملكة الكثير من عناصر القوة التي مكنته من مواجهة التقلبات الاقتصادية العالمية، وزادت مقدرته على التكيف مع المتغيرات والمستجدات.
فعلى صعيد الاقتصاد الكلي ازدادت قيمة الناتج المحلي الإجمالي (بالأسعار الثابتة) بما يقارب الخمسة أضعاف خلال الفترة 1390 - 1391 - 1427 - 1428هـ (1970 - 2007م) وواكب هذا النمو المطرد استخدام موسع للتقنيات الإنتاجية المتطورة التي انتظمت العديد من فعاليات الاقتصاد الوطني كما واكبه تطور هيكلي تمثل في تنويع القاعدة الإنتاجية وتعزيز الدور التنموي للقطاع الخاص. فقد حرصت خطط التنمية المتعاقبة على تهيئة مناخ إيجابي موات للقطاع الخاص السعودي ليسهم إسهاماً مباشراً ومتنامياً في فعاليات الإنتاج والاستثمار والتصدير وتوفير الفرص الوظيفية للمواطنين. فنشأ في كنف هذه البيئة الإيجابية قطاع خاص يتسم بالحيوية وتتمتع مؤسساته بقدرات فنية وتنظيمية متطورة. وبالتوظيف الكفؤ لتلك القدرات حقق هذا القطاع إنجازات تستحق الإشارة إليها والإشادة بها، من ذلك أن إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي قد بلغ نحو (75.3%) في عام 27-1428هـ (2007)، وارتفع حجم الاستثمار السنوي لهذا القطاع من نحو (1.2) بليون ريال في عام 1390-1391هـ (1970) إلى نحو (140.3) بليون ريال في عام 27-1428هـ (2007) وهو ما شكل حوالي (60%) من إجمالي تكوين رأس المال الثابت في القطاعات غير النفطية بالأسعار الجارية. كما بلغ إجمالي العمالة في أنشطة القطاع الخاص نحو (6.6) مليون عامل في العام نفسه، شكلوا حوالي (85.5%) من إجمالي القوى العاملة.
واتخذت المملكة خلال السنوات الماضية العديد من الإجراءات المهمة على صعيد التطوير المؤسسي والإداري شملت إنشاء كيانات اقتصادية جديدة، وإعادة هيكلة بعض الكيانات القائمة، وتسريع وتيرة التخصيص، وإقرار العديد من الأنظمة التي استهدفت تنظيم مختلف جوانب النشاط الاقتصادي وتحسين كفاءته وتوفير المزيد من الحوافز والضمانات للمستثمرين الأجانب وتبسيط وتسريع الإجراءات الإدارية المرتبطة بممارسة أنشطتهم في المملكة.
وقد كان من نتائج جهود التطوير والتحديث المؤسسي والإداري وتطوير الأنظمة وتبسيط الإجراءات حدوث تحسن ملموس في بيئة الأعمال بالمملكة وازدياد في جاذبيتها للاستثمارات الأجنبية المباشرة. ونتيجة لذلك شهدت المملكة خلال السنوات الماضية ازدياداً ملحوظاً في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتجهة إليها، بل أصبحت المملكة في مقدمة دول منطقة الشرق الأوسط في هذا المضمار. وفي عام 2008 تبوأت المملكة المركز السادس عشر من ضمن 181 دولة وفقاً لتصنيف تقرير ممارسة أنشطة الأعمال الصادر من مؤسسة التمويل الدولية التابعة لمجموعة البنك الدولي.
ونظراً لأن الإنسان السعودي هو محور التنمية وهدفها الأسمى فقد حظيت تنمية الموارد البشرية بأهمية خاصة في مسيرة المملكة التنموية، فاستطاع قطاع التعليم تحقيق مستويات عالية وغير مسبوقة من النمو نتيجة للحرص على توفير جميع متطلبات تطويره، فخلال الحقبة 1390 - 1428هـ (1970 - 2007) تم افتتاح 13454 مدرسة ابتدائية بمعدل مدرسة واحدة في اليوم على مدى السبع والثلاثين سنة الماضية. وعلى المنوال نفسه تم افتتاح 7503 مدارس متوسطة بواقع مدرسة واحدة كل يومين خلال المدة المذكورة. وتم افتتاح 4516 مدرسة ثانوية بمعدل مدرسة واحدة كل 3 أيام. وشهد قطاع التعليم العالي تطورات إيجابية ملحوظة على الصعيدين الكمي والنوعي. فعلى الصعيد الكمي ارتفع عدد الجامعات إلى 21 جامعة، وعدد كليات المجتمع إلى 28 كلية بنهاية عام 1428هـ (2007)، وتضاعف عدد الطلاب الملتحقين بالتعليم العالي أكثر من 76 ضعفاً خلال المدة 1390 - 1428هـ (1970 - 2007). وعلى ا لصعيد النوعي تواصلت الجهود لتطوير البرامج ورفع مستوى الجودة بالجامعات وتكثيف أنشطتها في مجالات البحوث العلمية والتقنية.
وفي توازٍ مع التطور المحقق في مجال التعليم كان التطور في مجال التدريب حيث بلغ عدد الكليات التقنية العاملة نحو 34 كلية في عام 27-1428هـ موزعة على مناطق المملكة المختلفة، يدرس بها نحو 54 ألف دارس، وبلغ عدد خريجيها في ذات العام نحو 12.4 ألف خريج، ومن المستهدف أن يرتفع العدد إلى 74 كلية تقنية، وبلغ عدد معاهد التدريب المهني 52 معهداً يتدرب فيها نحو 15.4 ألف متدرب، وتخرج منها نحو 10.7 ألف متدرب في عام 27-1428هـ (2007). وتحققت إنجازات مماثلة في مجالات التدريب التي يضطلع بها القطاع الخاص.
وتزامن مع الاهتمام بالتعليم والتدريب اهتمام وحرص مكثف على صحة المواطن، فتوسعت المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية ومرافق الخدمات الطبية المساندة مما ترتب عليه تعميم الخدمات الصحية - الوقائية والعلاجية - في كافة أرجاء الوطن. وحسب بيانات العام 1428هـ (2007) فإن توفير الخدمات الصحية يتم من خلال شبكة واسعة من المرافق والتجهيزات تشمل 386 مستشفى تضم 54724 سريراً، وفي ذلك العام بلغ عدد الأطباء 45589 طبيباً، وعدد هيئة التمريض 83868 فرداً، كما بلغ عدد المراكز الصحية الحكومية التابعة لوزارة الصحة التي توفر خدمات الرعاية الصحية الأولية 1925 مركزاً، بالإضافة إلى 1057 مستوصفاً، و1326 عيادة طبية يديرها القطاع الخاص.
وفي مجال توفير السكن للمواطنين بلغ إجمالي ما قدمه صندوق التنمية العقارية من تمويل ميسر لبناء المساكن بنهاية العام 27-1428هـ (2007) حوالي 154.5 بليون ريال. وواكب ذلك اهتمام ببرامج الرعاية الاجتماعية حيث قدمت الدولة مختلف أنواع الإعانات للمواطنين مثل إعانات الضمان الاجتماعي وإعانات الشؤون الاجتماعية. ولا بد في هذا السياق من الإشادة بالاهتمام الخاص الذي ظل يوليه خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - بالأسر المحتاجة وبالمعوقين وذوي الحاجات الخاصة من أفراد المجتمع السعودي حيث كان من تجليات ذلك الاهتمام الأمر الذي أصدره - رعاه الله - في غرّة رمضان الحالي بصرف مبلغ مليار ومائة وخمسين مليون ريال للمستفيدين من الضمان الاجتماعي، ثم أمره - وفقّه الله - في منتصف رمضان الحالي بزيادة مقدار الإعانة المالية المخصصة لجميع فئات المعوقين المسجلين على قوائم وزارة الشؤون الاجتماعية بما نسبته 100% لمساعدتهم على تلبية احتياجاتهم المرتبطة بإعاقتهم، وذلك بمبلغ إضافي سنوي مقداره مليار وواحد وأربعون مليون ريال.
إن ما يسترعي الانتباه حول المسيرة التنموية للمملكة هو التماثل في بعض الجوانب المهمة بين بداياتها في عهد الملك المؤسس وواقعها الراهن. فمثلما تبنّى الملك المؤسس الأساليب الحديثة لتطوير الزراعة ومصادر المياه وإدارة عمليات التنقيب وبناء شبكة المواصلات والاتصالات ونشر خدمات التعليم والرعاية الصحية وبناء مؤسسات الدولة، واستعان في كل ذلك بالخبرات الوطنية والأجنبية، وابتعث السعوديين إلى الخارج للتخصص في مختلف المجالات، فإن المملكة تحرص الآن على الاستخدام الموسع لمنجزات العلوم والتقنية في كافة المجالات الإنتاجية والخدمية وتحرص كذلك على نقل المعارف والتقنيات المتطورة من الخارج عبر آليات التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتبتعث أعداداً متزايدة من أبنائها إلى الخارج لاكتساب المعارف الحديثة والخبرات في مختلف المجالات. وتعزيزاً لهذا التوجه خطت المملكة خطوات واسعة وشرعت في إنجاز مشروعات عملاقة ترمي إلى إرساء دعائم ومقومات الاقتصاد المبني على المعرفة. كذلك ومثلما كان الملك المؤسس يستشرف المستقبل في سياساته وبرامجه فإن أبناءه البررة يتخذون من التخطيط التنموي وسيلة فعالة لبناء المستقبل الاقتصادي والاجتماعي المنشود للمملكة وفق أسس علمية مدروسة.
في الختام، نسأل الله العلي القدير أن يوفق قائد المسيرة خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين في جهودهما الحثيثة لإعلاء شأن المملكة وإسعاد مواطنيها.