كان الحياء هو المسيطر على العقل السعودي؛ ولكن لم يكن هو الموجه للسلوك أو الحياة؛ بل إن هناك تعاليم إسلامية وعربية صرفة أقرها الإسلام جعلته في شكل متناسق تماماً مع السلوك؛ لكن طغيان مؤشر الشيمة والحشمة عند الجنسين
هو الذي له اعتبار في مسار المجتمع؛ وهو ما يعبرون عنه ب(عيب).
ولعل عدم اختلاط السعوديين بالحضارات المتضاربة مع معيارية الفرد هنا؛ هو الذي جعل التناغم يسير بهدوء وعقل فاعل؛ ويحفظ مسيرة عاقلة ومؤثرة في سلوكيات الناس في أي مجال من مجالات الحياة؛ لأن الرجال أنفسهم هم الفاعلون في القرار بتفرد مع شراكة عاقلة وفاعلة من شقيقة الرجل؛ بيد أن كل جنس يحفظ مسيرته على خط أفقي له سقف لا يمكن أن يتمرد عليه.
كان عامل البناء سعودياً؛ وكان منظف المراحيض وغاسل الموتى سعودياً؛ وكان عامل الكهرباء في الشركة الوحيدة سعودياً يتسلق الأعمدة ويمدد الأسلاك العارية؛ أي أن المجتمع يقوم بحاجاته هو لا غيره؛ وسبب هذا الاتجاه هو الحاجة التي هي صانعة المعجزات للناس؛ وهي جيدة للحفاظ على التوازن الاجتماعي والوطني العام.
لكن انقلاباً في تركيبات المجتمع حدث جلياً في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله؛ فقد جاءت جنسية عربية وحيدة لتقوم بخدمات أنف عنها بعض أهلها الأصليين لعدم إلحاح الحاجة عندهم؛ أو لتقدم أهلها الأصليين في السن وإعراض أبنائهم عن ذلك العمل في مهن الآباء، لأن التعليم صنع منهم وجوهاً غير الأصيلة تماماً؛ لتحتل أماكن كانت لغيرهم؛ وكانت تلك الفئة تتغنى بأمجاد الناصرية وتتأثر وتؤثر بها آنذاك، أي قبل اكتشاف زيفها، حتى أنك تجسد مسمى (جمال) صار من نتائجها في تسميات جيل ذلك العصر.
من هنا اختلف توازن العقل السعودي إلى أن يكون مذبذباً بين الحاجة والتخمة اليومية؛ أي أن الإلحاح على العمل بدأ يقل بحكم تحسن أحوال المعيشة للفرد؛ وتمرد العامل على مهنته التي كانت ضماناً لحياته؛ وميله إلى الترفع عنها في ظل إلحاح الأبناء.
جاء عهد الملك خالد بن عبدالعزيز فانفلقت الأرض عن خزائن أطغت العقل العاقل ليصبح عقلاً غير فاعل ولا عاقل؛ فتغيرت الموازين ونواميس الحياة في مجتمع جاءته هزة المال الذي صار بديلاً للحشمة والحياء السابقين.
استمر المال يتدفق والعقل حائر في كيفية صنع حالة توازن عاقلة؛ بين المال والسلوك المقابل لتوطين المال بشكل لا يحدث الهزة في العقل الذي لا يزال لم يستوعب تلك الهزة الفجائية؛ وكنتيجة حتمية للهزة جاء المال بوجوه لم تعرف المال من قبل وفجأة صارت محاطة بوجوه أخرى ممن يبحثون عنه عندهم؛ أي أنها جاءت من آخر السلم الاجتماعي إلى قمته دون مقدمات؛ واستقدمت وجوهاً لا تعرفها سابقاً لخدمتها وتسيير أعمالها؛ وهنا الخطر القوي؛ لأنهم حديثوا عصر بثروة وموقع وتصرف اجتماعي لم يعرفوه من قبل؛ وهذا في حد ذاته وجع يضاف إلى أسباب أوجاع ظلت تنمو في جسد المجتمع؛ مثل تلاقح الحضارات التي من ميزاتها أن المال هو المسير والمؤثر والفاعل؛ وقلت فاعلية الحشمة والخلق العربي الذي زاده الإسلام ترسيخاً.
تكاثرت الوجوه على مجتمع متخم بالمال؛ وهي وجوه لم تكن معهودة ولا معروفة من قبل؛ جاءت للمال فقط؛ وكانت لها سلوكيات تتنافى مع حشمة المجتمع الذي قدمت إليه؛ وصارت سذاجة المجتمع مؤثراً في العقل النامي تحت ضغط المال؛ حتى استغل القادمون تلك الطيبة وفسرت بأنها غباء وسذاجة ما بعدها شيء؛ أي أن الفطرة والمال لم يكونا في محلهما الصحيح.
استمر العقل السعودي في غيبوبة الثقة والتفاؤل وحسن النية؛ ولكن هيهات أن يصلح هذا العقل مواجها لعقول تعرف كيفية أن تحتال بشكل حضاري مهذب وذكي جداً؛ وتعرف كيفية تغييب العقل الساذج الحديث عهد بالحضارة.
أنقلب المجتمع على ذاته لا على غيره؛ لأنه لا يستطيع أن يواجه الأقوى القادم بكثير من الخبرات اليومية والتقنية التي هي من مقومات الحضارة الفجائية هنا؛ فصار الحز والقطع داخل المجتع الذي انقسم إلى فئات أريد لها أن تتنافس على المال والمواقع الأمامية للمجتمع الواحد؛ بمعنى أن المناطقية خلقت وجهاً آخر للسلوك الاجتماعي مع بيروقراطية يمكن التحايل على نماذجها بشيء من خداع المواد النظامية المطاطة عند المط والمنكمشة عند التطبيق الفعلي الجاد.
من هنا انتبه العقل المخمور بآمال ونسي أن السلوك السابق للجد والجدة لم يعد هو النافع في زمن معياريته الموقع المتقدم والمال الذي يصنع معجزات الأرض.
يبدو لي أن المجتمع السعودي يواجه أزمة أخلاقية قوية ربما تكون نتائجها خطيرة على الجيل الجديد الذي هو تائه بين تقاليد جيدة ومحمودة يحاول الحفاظ عليها من خلال نصائح الآباء والأجداد؛ ومن خلال واقع يومي يقوم على الرشوة والفساد الإداري والتعليل بأن الوصول للهدف لا يكون إلا بالمال أو الجاه المنتفع منه حقاً.
فهل يغرق عقل المجتمع السعودي من خلال الفساد الإداري والخلقي أم أن هناك من يضمن الحفاظ عليه؛ ويحفظ توزنه الذي بدأ يهتز بشكل واضح؟!
فاكس 2372911
ABO HAMRA@HOTMAIL.COM