Al Jazirah NewsPaper Sunday  21/09/2008 G Issue 13142
الأحد 21 رمضان 1429   العدد  13142
الجزء السابع عشر من إطلالة على التراث من تأليف د.عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر

قراءة - حنان بنت عبدالعزيز آل سيف

حبى الله سبحانه وتعالى تراثنا العربي الأدبي، وموروثنا الثقافي الحضاري، برجال بررة مخلصين حدبوا على حفظه وتدوينه وخدمته، فلموا شعثه، وقربوا بعيده واهتموا بمتفرقه، فمن الأدباء القدماء جاءتنا مادته ونصه ومتنه حيث قيضوا أنفسهم، وجندوا طاقاتهم في سبيل جمعه بين دفتي كتاب ليبقى خالدا على مر السنين، وليكون شاهدا على ما وصل إليه العقل العربي من رقي وتألق وسمو، وللعلماء والأدباء والتاريخيين عجائب تذكر، وهمم لا تقهر، في سبيل هذا التراث، فهو سلواهم وإمتاعهم، وكتب التراجم تحكي أخبارهم، وتقص أحوالهم، وما سير أدباء ذاك الزمان السالف منا ببعيدة، فالجاحظ وابن قتيبة وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري وغيرهم كثير كثير، هؤلاء أعلام لهم بريق الذهب وأصالة معدنه، وما تزداد مؤلفاتهم على كر السنين وفرها إلا تجدداً وثراء وأصالة.

وفي عصرنا الحديث سخر الله لهذا التراث رجالاً من طراز آخر، عنوا بطباعته وتحقيقه وتمحيصه وتصحيحه فجاء هذا التراث يختال في حُلل سندسية استبرقية موشاة ومحلاة ومزينة بدرر لا كالدرر، وبجواهر لا كالجواهر، ومن هؤلاء الرجال معالي الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر -حفظه الله تعالى ورعاه- في مسيرته الثقافية وسيرته الأدبية، وبين ناظري الجزء السابع عشر من كتابه الرائد: (إطلالة على التراث) في طبعته الأولى بمدينة (الرياض) العامرة، وقد جادت به أنامل مطبعة سفير عام 1425هـ - 2004م، والكتاب يتبنى قضية خطيرة، ورسالة عظيمة، وهي تتبع مواضع النحل في كتب التراث العربي الأدبي، وكانت هذه القضية محل اهتمام، وموضع عناية، من قبل العلماء والأدباء والنقاد قديما وحديثاً لحرصهم على تنقية الكنوز الأدبية من شعر ونثر وطرائف وقصص ونوادر وفكاهات من وضع الواضعين، ونحل الناحلين، فقاموا بجهود جبارة حول هذا الموضوع، والقارئ في كتب الأدب القديمة يجد إشارات وعلامات على مواضع النحل إلا أنها تأتي حينا معللة وفي أحايين كثيرة مجردة عن السبب والتعليل، والمتصدي لهذه القضية لا بد أن يكون ملماً بكتب التراث، متذوقاً لمضامينها، عالماً بخفاياها، واقفاً على أسرارها، وهذه الملكة النقدية في الحكم على مفردات النصوص الأدبية بالوضع أو عدمه، ليست من السهولة بمكان، بل تحتاج إلى عقل فريد، وإحساس دقيق، وقريحة وقادة، ودُربة مكتسبة، وذوق أدبي، ولا تتأتى هذه الأمور بأجمعها إلا لمن قضى نهاره، وأطال ليله، في مسامرة (البيان والتبيين) أو (الحيوان) أو (العمدة في الشعر) أو (ديوان المعاني) أو (زهر الآداب) وغيرها عديد ووفير من كتب الأدب والتأدب.

وكلما أمعن الناقد في نظرته، وأطال التأمل في بغيته، وأجاد في استلهام قريحته، صار صيرفيا ماهراً، لا تخطئ له فراسة، ولا يخفى عليه الجيد من الرديء، والصحة من الزيف، والذهب من الحديد، والنحل له طرق متعددة، وأساليب متفرقة، إلا أن أشد النحل أن يولد الرجل في القبيلة وينشأ فيها ويتنسم عليل هوائها ويلازم شعراءها ويأخذ عن دواتها وحينما يطبعه الزمان بطابعها إذا به ينحل الشعر لها، فيقول القصيد الطويل ثم يضعه على ألسنة شعرائها, ورغم هذا لم تقف مواهب أعلام النقد عاجزة حائرة، بل تتبعوا أنماط هؤلاء الرواة الناحلين، ودونوا أسماءهم في مصنفاتهم ليزول اللبس، وتسكن النفس، إلى أن ديوان الشعر العربي يلم بين إهابيه شعراً عربياً فصيحاً تسامى عن النحل، وتعالى عن الوضع.

والناظر في كتاب الدكتور الخويطر السالف الذكر يجد أنه أمام أحكام نقدية ذات بال، وآراء أدبية لها باع طويل، فهو رجل عزم على رحلات كشفية في كتب أدبية، تمخضت عن فوائد وفرائد قد لا يجدها القارئ المهتم والشغوف في مظان أخرى.

وحينما تنظر في مقدمة الكتاب تستهويك تلك الكلمات التي تصدرتها والتي يقول فيها: (هذا الجزء من كتابي إطلالة على التراث) طال حمله، وتأخر من الجزء الذي سبقه، لأنه أخذ من بين فكي الأسد، وفك الأسد ذو أسنان، أحدها الوقت، والآخر ظروف العمل، والثالث الواجبات الاجتماعية بأنواعها، ورابعها السفر، وخامسها الزكاة، وأمور صحية أخرى، تأتي عارضة، مع ما يتخلل ذلك من مراجعة الأطباء، وسادسها وسابعها إلى آخر العدد مما لا يكاد يحصى).

وتحوي المقدمة وقفات نقدية مهمة، وقبل الإشارة إلى هذه الوقفات تجدر بنا الإشارة إلى مصادر الكتاب، والمصادر هي كتب الأدب المختلفة كآداب الملوك للثعالبي، و(الأذكياء) لابن الجوزي، و(أبناء نجباء الأبناء) لابن المظفر، والحدائق الغناء في أخبار النساء) للمالقي، و(المختار من نوادر الأخبار) للمقري الأنباري، و(كليلة ودمنة) لعبدالله بن المقفع وغيرها، ويوضح الدكتور الخويطر طريقته في الاستقاء منها فيقول: (في هذا الجزء تركزت النصوص على عدد محدد من الكتب، لأن الفكرة التي يدور عليها لا تحتاج إلى مصادر متعددة، وما أُتي به منها ما هو إلا نماذج لما هو مكرر في الكتب الأدبية، والمصادر التاريخية، ومراجع التراجم، وأبحاث اللغة العربية، والكتب هذه مما استقينا منه، ومما لم نستق، يأخذ المتأخر منها من المتقدم) والمتأمل في نصوص هذه الكتب يحتاج إلى تأن وعمق وطول بحث ومن خلال هذه النظرة الفاحصة تتبين مواضع الزيادة والنقصان، والنحل والوضع والخلل، والتعصب على أنواعه يعتبر عاملاً قوياً من عوامل النحل والتأليف بل هو أسوأ هذه العوامل، يقول المؤلف: (من أسوأ أسباب النحل والتأليف، التعصب الديني والعنصري والمهني والقبلي أو الأسري أو السياسي هو أكثرها وقوعاً، وأشدها حدة، لاكتمال أسباب السخط على الحاكم أو الرضى عنه). ويلفت النظر إلى شخصية سياسية مشهورة عانت من النحل وكثرة التشويه وهي شخصية الخليفة العباسي (هارون الرشيد) وبسبب السُخط عليه من قبل البعض شكك بعض المناوئين له وبعض المبغضين في نزاهته وتقواه وصلاحه، والطريقة التي يعتمدون عليها هي الإتيان بصفة معينة ثم حذف الجزء المنير والصحيح، والإبقاء على الجزء المظلم فيتقول الناس عليه بما هو مدعاة إلى الريبة والشك، ومن خلال هذه الفرية يوضح المؤلف الرسالة الوضيئة المضيئة والتي يجب على الباحثين جعلها أمام أعينهم، وإزاء بصائرهم فيقول: (هذا يوجب على الباحثين الحرص على التمحيص الدقيق، والمقارنة الوافية، وتتبع النصوص في كتب الأدب والتاريخ، ليفضح به غير الثابت مما هو مزور أو مضطرب) وضمن سياق مقدمة الكتاب يقف المؤلف مواقف الإعجاب بجهود المخلصين والصادقين الغيورين من أبناء هذا التراث الأدبي، والذين دفعهم عشقهم وحبهم له إلى تتبع السقطات والنظر في العثرات، ويحوي هذا الجزء عدة مقالات وهي التالية: (تحية للنساء، سياسة وسائسون، هفوة نية، عظة من أديب، توخي النفع، تفكّه الأدباء، وصف مرذول، من وحي الصحراء). وهذه المقالات الثمان أطال المؤلف وأسهب في اثنتين منها، وذلك لأسباب وجيهة يراها فقال: (هذا الجزء السابع عشر من إطلالة على التراث) فيه مقالتان مطولتان، رغم أن ما جاء فيهما ليس إلا أمثلة لبعض ما هو في الكتب الأدبية والتاريخية، وليس استقصاء، فلو استقصى كل ما جاء عن واحد منها لجاء مجلدات، لأنهما موضوعان مهمان لأهل ذاك الزمن ولنا اليوم: أحدهما عن النساء، والثاني عن الصحراء، وكلاهما يوحي للناس بشتى الأفكار المغرية بالتدوين والكتابة، سواء كان واقعا فعلاً، أو متصوراً متخيلاً)، وفي موضع آخر من مواضع مقدمة الكتاب الثرية يفصل القول حول هاتين المقالتين الطويلتين فيقول: (أطول المقالات كانت تتحدث عن الصحراء وابن الصحراء، لتنوع ما قيل في هذا وتشعب طرقه، وتعدد مراميه, وتعارض بعضه مع بعض، وتماثل الاتجاه في بعض الأغراض، أو تضادها، وما في بعضها من القوة أو الضعف، الوضوح أو الغموض، التعميم أو التخصيص، وما إلى ذلك مما استوجب الوقفة عنده.

والموضوع الطويل الثاني عن النساء، وهن نصف المجتمع، فلا غرو أن تأتي المقالة عنهن ضافية، وقد بينت الأسباب التي توجب الاهتمام بما جاء عنها في التراث، وجمع بعض ما جاء فيه، مما قيل عنها، مع تمحيصه، ونحن الرجال نقوم بهذا حتى لا نعدّ مقصرين في حقها، عندما تبدأ هي تستدرك بعد أن تعلمت، ما فاتنا القيام به، فتملأ أرفف المكتبات بما تكتبه هي عن النساء، مضاهاة للرجال فيما كتبوه عن أنفسهم، ولعل هذا يوحي لبعض المؤهلات أن يعنين بما ورد عن المرأة من نصوص في التراث، تبين بتجرد ما قامت به في الماضي وما قيل عنها)، وتبرز هذه المقولة الحكيمة المنصفة أهمية دور المرأة في إضفاء الزخم الثقافي والبحثي على نصوص التراث الأدبي بوصفه تعبيرا عن وجدان الأمم والشعوب، ووصفاً لروحانيتها الخلاقة التي ترجو وتأمل أن تحققها في تطلعاتها التراثية المستقبلية حينما تضع حجر الأساس لانطلاقتها الميمونة المباركة التي تشكل رافداً من روافد الهوية النسائية التراثية، وعلّ معالي الدكتور الخويطر - يحفظه الله- يسمح لي بوقفة قصيرة عند مقالتي: (النساء والصحراء) لأدلي بدلوي المتواضع، ولأزجي ببضاعتي المزجاة فاقول: إن لهاتين المقالتين دلالات تاريخية أدبية تراثية، منبعثة من وجدانيات المؤلف وهي خلجات شعورية، ونفحات ذاتية، ينفثها في رسم حروفه ومعنى مفرداته فتنساب متغلغلة في جذور التراث، ومتخللة أعمق أعماقه، ومترنمة بقيمه الفضلى، ومعانيه العليا، في خطرات شعرية، ومرتكزات لفظية قوية، ودلالات صوتية مؤثرة، حيث يعمد إلى سبر عوارض الشخصيات البارزة في النصوص الأدبية التي يضعها تحت مجهره وعدسته النقدية، وقريحته الذوقية التي تعد بمثابة عين ثالثة يرصد من خلالها جميع الصور الفنية المحيطة بالنص المدروس كالمكان والزمان والحركة التي تجسد ما يقع فيه من غلط وتضاد وتناقض فيقول: (وغالبا ما يكون هناك إبهام حيال بعض أشخاص القصة أو غمغمة أو ادعاء، مما يؤكد للناقد صحة حدسه في أنها مؤلفة، ولم تحدث في الحقيقة، ولكن فيها من المتعة ما جعلها تصارع عوادي الزمن، ومرور السنين، دون أن تفقد طلاء البهجة الموشّى أحيانا بالأقوال الحكيمة أو الأشعار الفصيحة والمنحنيات المفاجئة، مع محاولة يائسة في التعمية على القارئ، في أنها مؤلفة، والتأكيد على أنها أصلية عن طريق لا معنى لها من الرواة) وفي الكتاب سياحة نقدية متريثة ومتأنية تُظهر الإبداع النقدي عند معالي الدكتور الخويطر، وما يتميز به من نظرات فحصية قوية جداً في طرائف الأدب ونصياته، نظرات ذكية دقيقة تتصارع مع النص المنحول حتى تستخرج أنفاسه الموضوعة، وكل ذلك من أجل تراث عربي أصيل متوهج متسع، وتجربة (الخويطر) النقدية تميزها السمة العقلانية والصبغة المنطقية التي ظهرت من واقع شخصيات نصوصه المختارة في إيقاعاتها النفسية والاجتماعية والسياسية، ففي الكتاب لغة نقدية قوية تجعل القارئ يعيش في جو من المنهجية العلمية الموثقة، وما أحرى بك أيها القارئ لتعود وتقرأ ما كُتب حول نحل السياسيين وما وضع على ألسنتهم وبخاصة شخصية (الحجاج الثقفي)، وشخصية (معن بن زائدة) كجواد من أجواد العرب ورجل من رجالاتها وما اشتهر به من حلم وسعة صدر أغرت الوُضّاع بوضع القصص الكثيرة على لسانه، والأصمعي في حكاياته عن العشق والحب والصبابة تلك النوادر التي تقع رهينة الصدفة ثم يخفي نفسه تحت كتف أعرابي وأعرابية ويغطيها بغطاء شفاف رقيق لا يصمد أمام النظرة الفاحصة، والدراسة الصائبة.

وأخيراً فهذه الأحكام النقدية من صلب الحقيقة التي تعترف بما وصل إليه الدكتور (عبدالعزيز الخويطر) من سمو فكري وتألق نقدي.

عنوان المراسلة:
ص.ب: 54753
الرياض: 11524



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد