يتساءلون عن الحوار بين الأديان هل هو مشروع؟ فإذا كان مشروعاً، فما هي مصادر مشروعيته؟ وما هو منهجه؟ وما هي الأسس والمبادئ التي يبنى عليها هذا الحوار وفي نهاية شهر يوليو من عام 2008م كنت في طريقي إلى....
.....مؤتمر عالمي في إحدى العواصم الأوروبية مروراً بمصر تذكرت في القاهرة أني منذ أكثر من عام وعدت المرشد الأعلى للأخوان المسلمين بزيارة، فاتصلت بفضيلته واتفقنا على الموعد، كان من بين ما جرى الحوار حوله أن سألته عن حوار الأديان، فاستحسنه وقال: يجب أن يتم في اطار منهج ومبادئ وأسس، عندها أدركت أن جميع الأطياف الإسلامية قد اتفقت على إجراء الحوار بين الأديان، وأدركت وقتها سر النجاح الذي مني به مؤتمر حوار الأديان في مدريد.
فقد تم الحوار في أطر علمية، وضعت له الأسس واتفق على المنهج والمبادئ في مؤتمر مكة المكرمة الذي عقد في الفترة من 30-5- 1429هـ إلى 2-6-1429هـ برعاية وتوجيه خادم الحرمين الشريفين، بعدها انطلق المؤتمر في مدريد بتاريخ 16-18-7- 2008م ، فلماذا جاءت الدعوة العالمية للحوار في هذه الأيام؟.
لقد أدرك خادم الحرمين الشريفين بثاقب نظره أن ما يعيشه العالم اليوم من صراعات، ويتعرض له من مشكلات تهدد الأمن والسلام في العالم، ناجم عن الصراع بين الأديان، ولا يمكن للبشرية أن تعيش في سلام إلا بتحويل الصراع إلى حوار، وفي هذا يقول عالم الأديان الألماني المعروف هانز كونج (إن العالم لن ينعم بالسلام، دون تحقيق السلام بين الأديان، ولن يتحقق السلام بين الأديان إلا بالحوار).
والحوار بين الأديان ليس حديثاً، بل هو قديم قدم الأديان، لكنه اليوم أصبح يجري على مستوى العالم، وهو ما انفردت به دعوة خادم الحرمين الشريفين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أول من أجرى الحوار بين الأديان في الإسلام، فقد حاور نصارى نجران في المسجد النبوي وحاور اليهود في المدينة، وحاور الوثنيين حول المسجد الحرام عند البعثة، وفي شعاب مكة، وسوق عكاظ، والقرآن شاهد على ذلك.
وهناك بعض الدول مثل كازاخستان والأردن، ومصر، وغيرها أجرت حوارات بين الأديان، وعقدت المؤتمرات، وكان من أهم هذه الدول جمهورية كازاخستان التي اقرت انعقاد مؤتمر للحوار بين الأديان كل ثلاث سنوات، وشكلت لهذا الغرض أمانة عامة دائمة تتولى الإعداد لكل مؤتمر، كما قامت بتشييد صرح كبير لاحتضان هذه المؤتمرات التي أصبح مقراً للأمانة العامة للمؤتمر، ومع ذلك فان هذه المؤتمرات كانت محدودة النجاح، لأنها لم تتجاوز القاعات التي عقدت فيها، ولم تتحول إلى ثقافة للحوار يؤمن بها أبناء المسلمين وغيرهم، فتصبح عادة مألوفة لديهم.
أما حوار مدريد فقد تناقلته الفضائيات، وتغلغلت فكرته في المجتمعات، وامتد إلى المنازل والمقاهي، وفي زيارتي الأخيرة لواشنطن كنت أجد الجميع يتحدث عنه، ويشيد بمواقف المملكة، وأهمية هذه المبادرة، حتى شاهدت اثنين من علماء اللاهوت يصلون معنا الجمعة بالمركز الإسلامي بالعاصمة الأمريكية، وتم الاجتماع بهم بعد الصلاة، فقلت لهم: بأننا لو عدنا إلى الأنبياء لوجدنا دينهم الإسلام، فما هو منهج الحوار بين الأديان؟.
لقد بدأ الإسلام بالدعوة إلى الحوار مع جميع الأديان، وما يأمر به الله ورسوله يعتبر واجباً، فقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
فبعد أن بين الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم منهج الحوار الخاص مع نصارى نجران المتمثل في الافحام عن طريق المباهلة، مما اضطرهم للاستسلام للصغار بأداء الجزية، بين الله عز وجل المنهج العام للحوار في هذه الآية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى المنهج الذي يخاطب كل عقل سليم، وكل طبع مستقيم، فبناه عز وجل على الانصاف، وترك الجدل والافحام والالزام.
لقد أراد الله عز وجل في البداية تعظيم المخاطب، وتطييب قلبه عندما قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء}، وهذا ما يؤكد مشروعية الدعوة إلى الحوار، وليس في ذلك ضعف، أما الكلمة السواء فهي المساواة والإنصاف، ولا يتأتى ذلك إلا بترك الظلم.
إن هذا المنهج مع أنه عام، إلا أنه ينحصر في الحوار مع الأديان السماوية، وهي اليهودية والنصرانية، فأسس سبحانه وتعالى الحوار معهم على عبادة الله وحده، وعدم الشرك به والاتفاق على نفي الظلم والاستعباد والاستبداد والاضطهاد والاستعلاء على البعض، وإلا يحرم العلماء والكهنة على الناس ويحللون، فإن الله هو الذي يفعل لأن من يحلل ويحرم يضع لنفسه منزلة الرب، خصوصاً الذين يقولون بقبول قول الإمامة دون استبانة.
لقد كان زهير بن أبي سلمى قبل الإسلام يبحث بفطرته عن الديمقراطية والمساواة، فقد كره الاستعباد، وظلم الإنسان للإنسان فقال:
أروني خطة لا ضيم فيها
يسوي بيننا فيها السواء
أما منهج الحوار، فقد رسمه القرآن الكريم في الآية الكريمة بقوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
وقال العلماء إن الجدل بالأحسن هو منهج الحوار، وذلك بعدم الاستخفاف بآرائهم، وألا ينسب إلى الضلال آباؤهم، واستثنوا من ذلك الذين ظلموا، لأن الإسلام لم يأت لقتال الكفار بسبب كفرهم، بل بسبب ظلمهم إذا ما أصروا عليه، وبالغوا فيه.
والجدل هو فن الحوار، ويقوم على اثنين البرهان والبيان، فالبرهان هو اعتماد المنطق للاقناع عن طريق العقل، والبيان هو اعتماد المحسنات البديعية للاقناع عن طريق العاطفة، فالمنطق يخاطب العقل، والبيان يخاطب القلب.
ولو نظرنا إلى القواسم المشتركة في الحوار، لوجدنا أن الحوار مع الأديان ينقسم إلى قسمين قسم يجمع أهل الكتاب والصابئة معاً، وقسم يتضمن من يعبدون غير الله، ممن لا دين لهم.
فالقواسم المشتركة في الحوار مع الأديان هي ثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح، أما الوثنيون، ومن سار على سيرهم واللادينيين، فالقواسم المشتركة تتركز في القيم الإنسانية والعمل الصالح.
فأهل الكتاب والصابئة بين الله عز وجل القواسم المشتركة معهم، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، فالإسلام أكد على المبادئ الثلاثة، ونزه الحوار عن الاستغراق في دوامة التفاصيل والقضايا الخلافية التي عادة ما يدور حولها الجدل.
أما الحوار مع الجميع بما فيهم الوثنيين واللادينيين، فقد ركز الإسلام على القواسم المشتركة، وحصرها في الإنسانية والآدمية، فبناها على التعارف، وقيم الفطرة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
وبناءً على ذلك فالإسلام رفع الحرج عن المسلمين في المشاركة الجادة في الحوار بين الأديان بصفة عامة، والمسيحيين واليهود بصفة خاصة، فالجميع يلتقون في الحوار عند الآدمية المنسوبة إلى آدم عليه السلام، أما أهل الكتاب فيلتقي الإسلام معهم عند الإبراهيمية المنسوبة إلى إبراهيم، ولأن المسلمين يؤمنون بموسى وعيسى، وما جاءوا به، فإن الله اصطفاهم ليكونوا شهداء على الناس، فهم الموكلون بالحوار مع الجميع قبل غيرهم على أساس السلام والأمن وقيم العدالة، دون تفريط في العقيدة أو تنازل عن ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجراء الحوار بالتأكيد على قبول الآخر واحترام خصوصياته الحضارية، والنفع المتبادل والوقوف في مواجهة الفساد والجرائم والإرهاب، وكل ما يؤذي الإنسان ويهدد وجوده، عندها تصبح هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وبهذا نكون قد أدينا الأمانة التي أمرنا بها الله عز وجل، وليس العنف والإكراه وسبل الإرهاب.
Email-eshki@doctor.com