عُنيت الآداب منذ أن عرف الناس الأدب بالعناية بالمجاز كفن رفيع من فنون التعابير الأدبية. وعندما توسعت دولة الإسلام، واحتكت بالثقافات الأخرى، استفاد الأدب العربي من ثقافات المناطق المفتوحة، ونقل عنها، وترجم بعضاً من تراثها، فأثرت هذه الترجمات على الأدب العربي، وزادت من ثرائه، وعمقت من أساليبه، وارتقت بجمالياته. حتى قيل إن الأدب هو المجاز؛ وقيل: أدب لا يعترف بالمجاز لا قيمة له.
ابن المقفع الأديب المشهور ترجم كتابه الشهير (كليلة ودمنة) لخدمة هذا النوع من الأدب. ويقال إنه نقله من الفارسية إلى العربية؛ والكتاب مجموعة من الحكايات على لسان الحيوانات، بأسلوب أدبي راق، وكان هذا الكتاب نقلة نوعية في الأسلوب (المجازي) في الأدب العربي، الذي يرسم الفكرة بأسلوب يبتكره الأديب، ليؤدي رسالة يريد أن يوصلها إلى المتلقي بطريق غير مباشر، من خلال (الحيوانات) التي أنطقها.
احتفى العرب بهذا الكتاب، واعتبروه إضافة أدبية هامة في تاريخ الأدب العربي؛ ولم اقرأ أن فقيها أو شيخاً أو حتى واعظاً قال بحرمة قراءة كتاب كليلة ودمنة، لأن الجميع آنذاك اعتبره أدباً (مجازياً) راقياً، لا يمكن أن يتعامل معه على أنه (حقيقة). ومن يرصد تاريخنا الأدبي يجد أن أدبنا المحلي قد وظف الحيوان -أيضاً- في الحكاية، فكانت هناك حكايات منتشرة مازلت أتذكرها مثل (أم عامر وأبا الحصين)، و (الحمّره واللي بايع أمه بالمره) وغيرها من الحكايات الشعبية.
وباكتشاف التلفزيون، والصور المتحركة، تطور هذا الأدب، أو الفن، وتجلى أدب الحيوانات الناطقة في ما يسمى الآن (الأفلام الكارتونية)؛ فقد كانت هذه الأفلام شكلاً متطوراً من أدب كليلة ودمنة، أو أدب (أم عامر وأبا الحصين).
وفجأة خرج علينا شيخ (سوري) في إحدى القنوات الفضائية ، ممن يعيشون بيننا، ويتزيّا بزي مشايخنا، ويقدم نفسه شكلاً وموضوعاً على أنه منتج ثقافي ديني (سعودي)، ليعلن (بالنص) أن (ميكي ماوس يجب أن يقتل)!. لماذا؟ فيجيب بملء فمه: (لأن الفارة نجسة في الشريعة)، وبالتالي فإن (ميكي ماوس شرعاً يقتل في الحل والحرم كما هو الفأر)!. هذا الخلط بين (المجاز) و (الحقيقة) لا يمكن أن يخفى على الشيخ السوري، غير أن الهدف أو الغاية (أبعد) من مجرد ميكي ماوس، والفأر الذي يجب قتله؛ ثم؛ هل انتهت مآسينا الثقافية، حتى لم يبق إلا ميكي ماوس لتُشنَ عليه الحرب الصحوية؛ أي حتى ميكي ماوس ما (وفرتوه)؟ وكما أعرف -بالمناسبة- فإن الأفلام الكرتونية، وبالذات ميكي ماوس، كان يعرض في تلفزيون المملكة منذ أن فتح التلفزيون أي منذ أكثر من أربعة قرون، وقبل أن يتم (استقدام) هذا الشيخ السوري من وطنه إلى المملكة، وربما قبل أن يولد، ولم أتذكر أن أحداً من علمائنا طوال هذه المدة دعا إلى قتله كما فعل هذا الشيخ.
والذي أغاظني أن هذا التصريح تلقته الدوائر الإعلامية العالمية على اعتبار أنه فتوى لشيخ (سعودي)، وأثار ضجة، وردود أفعال واسعة، وسخرية بنا وبثقافتنا، التي -كما يقولون- لم تشرع قتل (الأوادم) فحسب؛ وإنما وصل الأمر إلى (قتل) شخصيات الرسوم الكرتونية أيضاً! وكما يقول المثل الشعبي: (يعرس سعيد ويتسبّح مبارك)؛ يقولها سوري، ويتحمل السعوديون تبعات ما يقول.
وختاماً له أقول: (عندنا ما كافينا يا خوي)، وإن كنت تريد أن تحتسب، فاحتسب في وطنك (الله يجزاك خير)، ودع عنك المزايدة علينا في أوطاننا. إلى اللقاء.